الأسباب الجالبة للبركة
الحمد لله الذي زيَّن قلوبَ أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزَم قلوبَ الخائفين الوجلَ والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كُتب، ولا في أيِّ الفرقين يُساق، فإن سامَح فبفضله، وإن عاقَب فبعدِله، ولا اعتراض على الملك الخلاق.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، شهادة أَعُدُّها من أكبر نِعمه وعطائه، وأَعُدُّها وسيلة إلى يوم لقائه.
يا رب:
يَظُنُّ الناسُ بي خيرًا وإني
أشرُّ الناس إن لم تَعفُ عني
وما لي حيلةٌ إلا رجائي
وجودُك إن عفوتَ وحُسن ظني
|
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، البشير النذير السراج المنير، الذي عمَّ نورُه الأفاق، والنور الذي لا يعترض ضياءَه كسوفٌ ولا مُحاق، الحبيب القريب الذي أُسري به على البراق إلى إن جاوز السَّبع الطِّباق، يا سيدي يا رسول الله.
يا أجمل ما رأتْ قط عينٌ
ويا أكملَ ما ولَدت النساءُ
خُلقت مبرَّأً من كلِّ عيبٍ
كأنَّك خُلقت كما تشاءُ
|
وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نَهْجه وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أخي المسلم، أُختي المسلمة، بعد أن وقَفنا على موانع حصول البركة، هيَّا لنتعرف على مفاتيح البركة والأسباب الجالبة لها.
اعلَم زادك الله علمًا أن للبركة أسبابًا إذا حقَّقها المسلم، فُتحت عليه أبواب الخيرات من الأرض والسماوات، وها هي بين يديك مُسفرة تدعو على مَن يشكو قلةَ البركة أن يفوز بها:
أولًا: الإيمان بالله وتحقيق التقوى:
فمن أعظم الأسباب التي تحقق للعبد البركة في كل شيء إن يحقق المسلم الإيمان بالله تعالى، وأن يكون من الذين آمنوا وكانوا يتقون؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَلَو أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾[الأعراف:96].
يقول القطَّان – رحمه الله – بركات السماء: تشمل الروحية والمادية، وبركات الأرض الخصب، وما فيها من معادن وخيرات.
بعد أن بيَّن الله أخْذه لأهل القرى الذين كذَّبوا رسُلهم، ذكر هنا لأهل مكةَ ما يكون من إغداقِ النعم لو آمنوا بالرسول، واهتَدوا بهدْيه، واعتبروا بسنَّة الله في الأُمم مِن قبلهم.
لو أن أهل تلك القرى آمنوا بما جاء به أنبياؤهم، وعمِلوا بوصاياهم، وابتعدوا عما حرَّمه الله – لفتحْنا عليهم أنواعًا من بركات السماء والأرض، نِعمًا لا تحصى؛ كالمطر والنبات والثمار والمعادن والأرزاق، والسلامة من الآفات، لكنهم جحدوا وكذَّبوا أولئك الرسل، فأنزلنا بهم عقوبتنا، لِما كانوا يقترفونه من الشرك والمعاصي[1].
ذكر الإمام أحمد في مسنده في ضمن حديث قال: وجدت في خزائن بعض بني أمية حنطة الحبة بقدر نواة التمرة، وهي في صُرَّةٍ مكتوب عليها: كان هذا يَنبُت في زمنٍ مِن العدل، وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب، وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء أنهم كانوا يعهدون الثمارَ أكبر مما هي الآن، وكثير من هذه الآفات التي تُصيبها لم يكونوا يعرفونها، وإنما حدثت من قربٍ، وأما تأثير الذنوب في الصور والخلق، فقد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خلَق الله آدم على صورته طُوله ستون ذراعًا، فلما خلقه قال: اذهب فسلِّم على أولئك النفر – وهم نفر من الملائكة جلوس – فاستمِع ما يُحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، قال: فزادوه ورحمة الله، قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن[2].
فإذا أراد الله أن يطهِّر الأرض من الظلمة والخونة والفجرة، ويخرج عبدًا من عباده من أهل بيت نبيه، فيملأ الأرض قسطًا كما ملئت جورًا، ويقتل المسيح اليهود والنصارى، ويُقيم الدين الذي بعث الله به رسولَه، وتخرج الأرض بركاتها، وتعود كما كانت، حتى إن العصابة من الناس ليأكلون الرمانة، ويَستظِلُّون بقحفها، ويكون العنقود من العنب وقرَ بعير، ولبن اللقحة الواحدة يكفي الفئام من الناس، وهذا لأن الأرض لَمَّا طهُرت من المعاصي، ظهرت فيها آثارُ البركة من الله تعالى التي مَحَقتها الذنوب والكفر[3].
ثانيًا: شكر الله تعالى على النعم:
اعلَم بارك الله لك وعليك أن من مفاتيح البركة والنماء أن يشكُر العبد ربَّ الأرض والسماء؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
عن علي أنه قال لرجل من همدان: «إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر معلَّق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطِعَ المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد»[4].
ثالثًا: الاستغفار:
إن من أسباب البركة أن يُكثر المرء من استغفار العزيز الغفار، فإن ذلك يَمنحه من ربه السَّعة في الرزق والبركة فيه؛ يقول خير الرازقين: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 – 12].
يقول ابن عطية رحمه الله: يقتضي أن الاستغفار سبب لنزول المطر في كل أُمة.
ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استسقى بالناس، فلم يزد على أن استغفر ساعة، ثم انصرف، فقال له قوم: ما رأيناك استسقيت يا أمير المؤمنين، فقال: والله لقد استنزلت المطر بمجادح السماء، ثم قرأ الآية، وسقى رضي الله عنه[5].
وشكا رجل إلى الحسن الجرب، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال: استغفر إليه، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، فقيل له في ذلك، فنزع بهذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: والاستغفار الذي أحال عليه الحسن، ليس هو عندي لفظ الاستغفار فقط، بل الإخلاص والصدق في الأعمال والأقوال، فكذلك كان استغفار عمر رضي الله عنه، ورُوي أن قوم نوح كانوا قد أصابهم قحوط وأزمة، فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر، ثم ثنَّى بالأموال والبنين.
قال قتادة: لأنهم كانوا أهل حب للدنيا، وتعظيم لأمرها، فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها[6].
عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن لزِم الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب[7].
رابعًا: التوكل على الله تعالى:
من أسباب السَّعة في الرزق والبركة فيه أن يتوكَّل العبد على ربه، ثم يأخذ بالأسباب؛ فإن الله تعالى أمرنا بالتوكل عليه، فقال: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122].
والنبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى كل خير، وحذَّرنا من كل شرٍّ، ومن الخير الذي دلنا عليه التوكل على الله تعالى؛ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله، لرزَقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا)[8].
فينبغي للباحث عن البركة أن يتوكَّل على الله سبحانه وتعالى، ثم يتبعه الحركة والسعي من أجل طلب الحلال، فإن الله تعالى أمر السيدة البتول أن تَهُزَّ جذع النخل حتى يتساقط عليها الرطب، ولم يأمرها بالتوكل فقط، بل لابد من الأخذ بالأسباب، فالأخذ بالأسباب أمرٌ واجب، وقد أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ [مريم: 25] الآية – أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمرٌ مأمور به شرعًا، وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا، وهذا أمرٌ معلوم من الدين بالضرورة.
خامسًا: الصدق في البيع والشراء:
اعلَموا رحمكم الله أن من أسباب حصول البركة الصدقَ في البيع والشراء، فإن ذلك من أبواب البركة التي غفَل عنها كثيرٌ من التجار، فهم يربحون ولكن لا يجدون لربحهم بركةً، بل هم في هَمٍّ وغَمٍّ وفقرٍ مع كثرة الأرباح، بسبب الكذب في بيعهم وشرائهم، ولقد أوضح النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم ذلك، فعن حكيم بن حزام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، أو قال: حتى يتفرَّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتَما وكذَبا مُحقت بركة بيعهما»[9].
يقول ابن حجر رحمه الله قوله: (محقت بركة بيعهما): يحتمل أن يكون على ظاهره، وأن شؤم التدليس والكذب وقَع في ذلك العقد، فمحَق بركته، وإن كان الصادق مأجورًا والكاذب مأزورًا، ويحتمل أن يكون ذلك مختصًّا بمن وقع منه التدليس، والعيب دون الآخر، ورجَّحه ابن أبي جمرة، وفي الحديث فضل الصدق والحث عليه، وذم الكذب والحث على منعه، وأنه سببٌ لذَهاب البركة، وأن عمل الآخرة يحصِّل خيري الدنيا والآخرة[10].
سادسًا: البكور في طلب الرزق:
ومن بواعث حصول البركة: البكور في طلب الرزق، ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل البكور بالبركة، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة عند الله تعالى؛ عن صخر بن وداعة الغامدي الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارِك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجرًا، فكان يبعث تجارته من أول النهار، فأثرى وكثُر ماله)[11].
يقول ابن بطال رحمه الله: وإنما خص صلى الله عليه وسلم البكورَ بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات – والله أعلم – لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم، وهو وقت نشاط وقيام مِن دَعة، فخصَّه بالدعاء؛ لينال بركة دعوته جميع أمته [12].
عن ابن عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بورك لأمتي في بكورها [13]؛ يقول ابن القيم رحمه الله: ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، وللسَّيرِ ذلك الوقت عند السالكين مَزيةٌ عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم، لم يَسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تَطلُع الشمس، فإنه أولُ النهار ومِفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القَسْم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكمُ جميعه على حكم تلك الحصة، فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر) [14].
[1] تفسير القطان – (ج 2 / ص 63).
[2] أخرجه البخاري ح 3148، ومسلم ح 2841.
[3] الجواب الكافي [جزء 1 – صفحة 43].
[4] الشكر – (ج 1 / ص 19).
[5] مصنف ابن أبي شيبة – (ج 7 / ص 76).
[6] المحرر الوجيز – (ج 6 / ص 425).
[7] قال الألباني: ضعيف، الضعيفة (706)، ضعيف أبي داود (268)، التعليق الرغيب (2 / 268)، ضعيف الجامع (5829).
[8] قال الألباني في “السلسلة الصحيحة” 1 / 557: أخرجه أحمد (1 / 30)، والترمذي (2 / 55 -)، والحاكم (4 / 318)، وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”.
[9] أخرجه أحمد (3/ 402، 434)، والدارمي (2550)، والبخاري (3/ 83)، ومسلم (5/ 10)، وأبو داود (3459)، والترمذي (1246)، والنسائي (7/ 247).
[10] فتح الباري لابن حجر، (ج 6 / ص 431).
[11] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ح 1693، وانظر حديث رقم: 1300 في صحيح الجامع.
[12] شرح ابن بطال – (ج 9 / ص 163).
[13] أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط ح 765، وأبو يعلى ح 5281، وقال الألباني: (صحيح)؛ انظر حديث رقم : 2841 في صحيح الجامع.
[14] مدارج السالكين [جزء 1 – صفحة 459].
تمت قراءة هذا المقال بالفعل103 مرة!
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.
ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق