خطبة بعنوان: “الأذان فضائل وغنائم”
الخطبة الأولى
الحمد لله ربِّ الأرباب، ومُنشئ السحاب، فارج الكربات، ومجيب الدعوات، ومُغيث اللهفات، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فأوصيكم – عباد الله – ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن؛ فهي خير زاد للمعاد، ولقاء الملك العلَّام؛ القائل: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
أيها المسلمون: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن عماده الصلاة، وهي الركن الثاني من أركانه، ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها، فرضها الله تعالى على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ليلةَ المعراج في السماء، بغير واسطة؛ تعظيمًا لشأنها.
ولما هاجر نبينا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأقام دولة الإسلام، وشيَّد مسجده، احتاج الصحابة رضي الله عنهم لِما يُشعرهم بوقت كل صلاة.
حدَّث عن ذلك عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فقال: ((كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحيَّنون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتَّخِذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال: بعضهم: اتخذوا قرنًا مثل قرن اليهود، قال: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أولَا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة؟ قال: فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، قُمْ فنادِ بالصلاة))؛ [رواه البخاري ومسلم].
قال القاضي عياض رحمه الله: “ظاهر هذا أنه إعلام بدخول وقت الصلاة، وليس على صفة الأذان الشرعي، بل إخبار بحضور وقت الصلاة”.
يؤيِّد ذلك ما ورد في سنن أبي داود والترمذي، ومسند الإمام أحمد، عن عبدالله بن زيد رضي الله عنه، أنه قال: ((لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يُعمَل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجلٌ يحمل ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبدَالله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفَلَا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، قال: فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، وذكر له ألفاظ الأذان كاملًا.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، ثم ذكر له ألفاظ الإقامة كاملة، قال: فلما أصبحتُ أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها لَرؤيا حقٍّ إن شاء الله، فقُمْ مع بلال، فألْقِ عليه ما رأيت فليؤذِّن به؛ فإنه أندى صوتًا منك، فقمت مع بلال فجعلت أُلقيه عليه ويؤذِّن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد)).
أيها المؤمنون: شُرِعَ الأذان بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، فبالأذان يُدعى لصلاة الجماعة، ويُعلَم به دخول وقت الصلاة، ويُعلى اسم الله تعالى بالتكبير.
وبالأذان يظهر شرع الله عز وجل، ويُرفع ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الأذان نداء الناس إلى الفلاح وخير العمل، وهو على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة.
والأذان من خصائص الإسلام، وشعائره الظاهرة، وهو فرض كفاية للصلوات الخمس المكتوبة، ولو اتفق أهل بلد على تركه، قُوتِلُوا.
وهو علامة بلاد الإسلام؛ فقد ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزوَ قومًا، انتظر حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم))؛ [رواه البخاري].
والأذان له فضائل عظيمة، وغنائم جزيلة؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته يُصلُّون على الصفِّ المقدَّم، والمؤذِّن يُغفَر له مدَّ صوته، ويصدقه من سمِعه من رطب ويابس، وله مثلُ أجر من صلى معه))؛ [رواه الإمام أحمد، والنسائي].
ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمؤذِّنين والأئمة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإمام ضامن، والمؤذِّن مؤتَمن، اللهم أرْشِدِ الأئمة، واغفر للمؤذِّنين))؛ [رواه أبو داود، والترمذي].
ومعنى أن الإمام ضامن؛ أي: الإمام يحفظ على القوم صلاتهم، والمؤذن أمين على مواقيت صلاتهم.
وروى مسلم في صحيحه أن المؤذن جاء إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه إلى الصلاة، فقال معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المؤذِّنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة))، والمعنى: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة، طالت أعناق المؤذنين؛ لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق.
وهنيئًا لمن حرص على الأذان، حتى وإن كان وحده في البرية، أو مع جماعة في استراحة، أو سفر، ونحو ذلك، فأذَّن للصلاة؛ قال الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه للتابعي عبدالله بن أبي صعصعة رحمه الله، وكان له غنم يرعاها: “إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك، فأذَّنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنس ولا شيء، إلا شهِد له يوم القيامة))؛[رواه البخاري]،فكما أن الله تعالى يُهين قومًا يوم القيامة ويفضحهم بشهادة الشاهدين عليهم بما عملوا وتكلموا به من سوء في الدنيا، فكذلك يكرم قومًا؛ تكميلًا لسرورهم، وتطييبًا لقلوبهم بما قدَّموا من خير في الدنيا، ومنهم المؤذِّنون للصلاة.
اللهم وفِّقنا لهداك، واجعل أعمالنا وأقوالنا في رضاك، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حقَّ حمدِه، والشكر له حق شكره، والصلاة والسلام على رسوله وعبده محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد عباد الله:
فيتعلق بالأذان خمسُ سننٍ عظيمة، وهِبات ربانية كبيرة، وغنائم جزيلة:
أولها: أن يقول السامع للمؤذن كما يقول المؤذن؛ روى الإمام مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه، دخل الجنة))، فهنيئًا لمن ردَّد من المؤذِّن بحضور قلب هذه البشرى الكبيرة.
وهنا مسألة تتعلق بالإقامة، فكثير من الناس يغفُل عنها؛ وهي الترديد خلف المقيم للصلاة، وذلك بأن يقول كما يقول، ثم يدعو بعد انتهائه من الإقامة بالدعاء والذكر الذي يقوله بعد الفراغ من الأذان، وهذه سُنَّة؛ كما ذكر ذلك الإمام الشافعيُّ، وابن قدامة، وابن باز، رحمهم الله وغيرهم من علماء الإسلام.
الثانية: وردت في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال حين يسمع المؤذن – يعني الشهادتين – وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربًّا، وبمحمد رسولًا، وبالإسلام دينًا، غُفِرَ له ذنبه))، ما أجمله من ثواب! وأعظمه من عطاء على كلمات يسيرة!
الثالثة: وردت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشرًا)).
الرابعة: وردت في الحديث الذي رواه البخاري، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة)).
الخامسة: وردت في الحديث الذي رواه أبو داود، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رجلًا قال: ((يا رسول الله، إن المؤذنين يفضُلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل كما يقولون، فإذا انتهيتَ فسَلْ تُعْطَهْ))، فهذا موطن من مواطن إجابة الدعاء قد يغفل عنه بعض الناس.
أيها المؤمنون: لنعظِّمِ الأذان، وليكن له منزلة عظيمة في قلوبنا؛ قال ابن جريج رحمه الله: “حُدِّثت أن ناسًا كانوا فيما مضى ينصتون للتأذين، كإنصاتهم للقرآن، فلا يقول المؤذن شيئًا، إلا قالوا مثله”، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا ينبغي لأحد أن يَدَعَ إجابة النداء“، فإذا كنا في مجلس طلب علم، أو قراءة قرآن، أو مدارسة، أو ذكر لله عز وجل، فضلًا عن انشغالنا بأحاديث الدنيا وأمورها، أو لهوٍ مباح ونحو ذلك، فلنوقف ذلك كله، ولنستمع إلى الأذان كلمةً كلمة، لفظةً لفظة، ولنقل مثل ما يقول المؤذن بحضور قلب، ولنأتِ بهذه السنن العظيمة المتعلقة بالأذان؛ فإن ذلك يُثمِر بركة عظيمة، وفضلًا عميمًا، وثوابًا جزيلًا، فإنه من الغنائم التي فرط فيها كثير من الناس، ومتى ربَّى المسلم نفسه، وألزمها ذلك الفضل والخير العظيم، أصبح هذا العمل المبارك مألوفًا له، مُحبَّبًا إليه، سهلًا، لا ينفك عنه، ولْيرَ الأبناء هذا الفعل الحميد من والدهم ووالدتهم ومربيهم؛ فينشؤوا عليه.
اللهم أعنَّا على ذكرك، وحسن عبادتك.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه؛ فقال عز من قائل عليم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، صاحبِ الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمرَ، وعثمان وعلي، وعن سائر الصحب والآل، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التنادِ، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، سخاءً رخاء، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لِما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، ومُدَّهما بنصرك وإعانتك، وتوفيقك وتسديدك، اللهم أدِمْ على هذه البلاد عزَّها وأمنها، وإيمانها ورغد عيشها، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا على القوم الظالمين، واحفظهم واشفِ مريضهم، وداوِ جريحهم، وتقبَّل ميتهم في الشهداء، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، وحرِّم على النار أجسادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.