سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ
الحديث 12: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ))
عناصر الخطبة:
• رواية الحديث.
• المعنى الإجمالي للحديث.
• المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حُسْنِ إسلام الْمَرْءِ تركُه ما لا يَعْنِيه))[1].
عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، ومعدود من أصول الأدب؛ قال الإمام الجليل أبو محمد عبدالله بن أبي زيد، إمام المالكية بالمغرب في زمنه: “جِماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فَلْيَقُل خيرًا أو ليصمت))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية: ((لا تغضب))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه))”[2].
والمعنى الإجمالي للحديث يفيد أن من كمال محاسن إسلام المسلم وتمام إيمانه، ابتعاده عما لا يخصه، ولا يُهِمُّه، وما لا يفيده من الأقوال والأفعال، وعدم تدخله في شؤون غيره، وعدم تطفُّلِهِ على غيره فيما لا ينفعه ولا يفيده.
فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟
نستفيد من الحديث لواقعنا ما يأتي:
1- ترك ما لا يعني من درجات الإحسان، ودليلٌ على كمال الإسلام؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء))؛ أي: من تمام وكمال دينه، ومن جماله وحسنه، تركه ما لا يعنيه من الفضول في الأقوال والأفعال، والابتعاد عما لا يعني مما حرَّم الله عز وجل، وما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما لا يُحتاج إليه من فُضول المباحات من الكلام والأفعال والأحوال؛ فمما لا يعني الإنسان ليس محصورًا في الأمور الدنيوية، بل إن مما لا يعنيه أيضًا، ما هو متعلق بأمور أُخْرَوِيَّة؛ كحقائق الغيب، وتفاصيل الحِكَمِ في الخَلْقِ والأمر، ومنها السؤال والبحث عن مسائل مقدَّرة ومفترضة لم تقع، أو لا تكاد تقع، أو لا يُتصوَّر وقوعها.
2- عدم ترك ما لا يعني سببُ الكثير من المشاكل: كم من أناس تتبَّعوا زوجًا وزوجته حتى فرَّقوا بينهما! فكم من غِيبة أو نميمة أو قذف بغير بيِّنة، أو عمل سحر أو غير ذلك من الموبقات كان سببًا في التفريق بين الأحِبَّة، وسببًا في الكثير من الخصومات!
قال حماد بن سلمة: باع رجل عبدًا وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة، قال: رضيت، فاشتراه”، فانظروا كيف هوَّن من أمر النميمة وهي من الاشتغال بما لا يعني، فكيف كانت النتيجة؟ قال حماد: فمكث الغلام النمَّام أيامًا، ثم قال لزوجة مولاه: إن سيدي لا يُحبُّكِ، وهو يريد أن يتسرَّى عليكِ، فخُذي الْمُوسَى واحلِقي من شعر قَفاه عند نومه شعراتٍ حتى أسحُرَه عليها فيحبكِ، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلًا وتريد أن تقتلك، فتناوَمَ لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها فجاءت المرأة بالموسى، فظنَّ أنها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة، فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين[3]، أرأيتم إلى نتائج الدخول فيما لا يعني؟ وشواهد الخصومات بين الأُسَرِ والعمَّال، وفي المدارس بين التلاميذ، وبين الأقارب والجيران وغيرها، سببها عدم ترك ما لا يعني، والاشتغال بالفضول في الأقوال والأفعال.
فمن تكلم في الغير بما يكره، فقد اعتدى على عِرْضِهِ، وتدخَّل فيما لا يعنيه، فعليه أن يعلم بأن لسانه مراقَب؛ قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال له: ((اكْفُفْ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله، أَوْ إنَّا لَمَأْخُوذُون بما نتكلم؟ قال: ثكِلتك أمُّك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم – أو قال: على مناخِرِهم – إلا حصائدُ ألسنتهم؟))[4]؛ قال الفضيل بن عياض رحمه الله: “من عدَّ كلامه من عمله، قلَّ كلامه فيما لا يعنيه”.
فاللهم إنا نعوذ بك من الاشتغال بما لا يعنينا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فنستفيد كذلك أن:
3- من حسن إسلام المرء الدخولُ فيما يعنيه؛ وهذا بالمفهوم المخالف من الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم القائل هذا الحديث لم يسكت عما يعنيه، وعلينا اقتفاء أثره في ذلك، فكان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام؛ تطبيقًا لقول ربه: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وحاول المشركون إسكاتَه بالإغراء أحيانًا، وبالتهديد أحيانًا أخرى، فما استطاعوا، ورسم له ربُّه منهجًا واضحًا في الآية السابقة، وفي قوله: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، فيتعين على المؤمنين تبليغُ دينِ ربِّهم للعالمين، فهو مما يعنيهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يقدِّم النصيحة لمن يحتاجها؛ كما رأينا في حديث: ((الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))[5]، وصحَّح للمسيء صلاتَه، وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم ((رأى خاتمًا من ذهب في يد رجلٍ، فنزعه فطرحه، وقال: يعمِد أحدكم إلى جمرةٍ من نار فيجعلها في يده، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله، لا آخُذه أبدًا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم))[6].
وكان يتدخل للصلح بين المتخاصمين، ويتدخل في أمور أخرى؛ ومن أمثلتها قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كلَّ يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتُعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة))[7].
فالحاصل أنه لا يجب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ترك الواجبات وحتى المستحَبَّات، ويقرر علماؤنا في قواعدهم أنه: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فحينما فُرضت الصلاة والحج مثلًا، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بسُنَّتِهِ القولية والعملية كيفية أداء الصلاة والحج، ولم يتأخر عن البيان.
فاللهم وفِّقنا لعدم السكوت عما لا ينبغي، آمين.
(تتمة الدعاء).
[1] رواه مالك في الموطأ، رقم: 3352، والترمذي، رقم: 2518، وقال: حديث غريب، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع، رقم: 5911.
[2] شرح النووي على مسلم: 2 /19.
[3] إحياء علوم الدين: 3 /158.
[4] رواه الترمذي، رقم: 2616، وقال: حديث حسن صحيح.
[5] رواه مسلم، رقم: 1718.
[6] رواه مسلم، رقم: 2090.
[7] رواه مسلم، رقم: 1009.
تمت قراءة هذا المقال بالفعل35 مرة!
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.