على بُعد بضعةِ أميال من مغادرته المدينة و في فضاء مكشوف، فاجأه ما لم يكن في الحسبان ..أسراب تسدّ الأفق ،وتحلّق في وجه الشمس، تعبر الطريق تسير في اتجاه لا تغيّره.
تقتحم مساره قادمة من جهة الغرب، تبدو غير متعبة، وقد قطعت مسافات طويلة، من وراء تهامة وصعدت الجبال باحثة عن زروع وخضرة، تقدّم أفرادُها بعشرات الألوف لهذا الغرض، فلا تحفل بما يجري للقليل منها منسحقًا تحت العجلات في سبيل الوصول، تصطدم بالسيارات المسرعة من الجوانب والأمام، وقد دهست المركبات أعدادًا كثيرةً منها، فيمتلئ الطريق بسائل لزج جراء ارتطامها.
واصل طريقه بعد غلق النوافذ بإحكام، يتملّكه العجبُ من أسراب تشبه الكارثة، متراكبة كوقع مطر غزير، كتُلها تعبر الطريقَ مرتفعةً وخفيضة، يمتلئ جسم السيارة بسوائلها اللزجة، يشقُّ كتلَها المتحركة بضيق وتأفّف، ويظل يعبر طريقَه بين جموعها المحلّـقة وأشلائها العابثة بنظافة الزجاج وأفرادها التي صبغت الإسفلت بأجسادها الصرعى، وكأنما جاءت لحتفها، في منظر مهيب ومهلكة كبيرة.
يتأمل سيرورة حياتها وتفاهتها في آن، كيف عبرت كل هذه المسافات، وتعجز في الوقت نفسه عن تحاشى الاصطدام بجسم كبُر أو صغُر، هنا فوق جبال السروات؟
سار في طريقه الخالي إلا من قلّة من العابرين صباحا، وبعد 20 ميلا، يلمحُ سيارة صغيرة بيضاء متوقفة على جانب الطريق، رأى شابا يشير له بالتوقف، تردّد، ثم قرر المساعدة. لا يبدو هذا الشخص قاطع طريق كما تحذّر الحكايات، فلن يجمع الله المصاعب كلها في يوم واحد، يكفي هذا الجراد المنتشر صباحًا، ربما اكتسحت هذه الآفةُ سيارةَ هذا الشاب، فتعطلت المكينة في هذا البرية، ها هو يشير بيده طلبًا للمساعدة ، يا له من صباح رمضاني خالٍ من العابرين.
تملّى الوجهَ قبل التوقّف تمامًا، شابّ في الثلاثين تقريبًا، تشكو سيارته ارتفاع الحرارة، يطلب ماءً للرديتر، تكلّم معه عبر الزجاج الذي فتحه إلى النصف، وجد المسافرُ القليلَ في قارورة صغيرة، أعطاه، واطمأن على أحواله، زوّده أرقاما تفيده، سأله قبل أن يتركه :
– “هل تحتاج خدمة أخرى!؟”
ردّ مع ابتسامة ضاحكة : ” في هذا البرّ المفتوح أخاف من الجراد !!”
أطلق المسافرُ قهقةً خفيفة، ولوّح له مودّعًا :
– “مع السلامة”.
واصل السير في طريقه، وعاد لأفكاره عن أم عوف وأخواتها، لا يدري أين ستذهب؟ وأي حقول تكفي هذه الأعداد المهولة؟ عددها ملايين! هي أكثر بكثير. هواجسه وأفكاره لا حدود لها، يقلّب الإذاعات بحثًا عن برنامج يتحدث عن الحالة، عن معلومة تواكب ما يجري، في هذا الجزء من الأرض كانت الإذاعاتُ سادرة في تفاهاتها بعيدة عن الحدث الذي لوّن السماء. وصبغ الطريق بهذه المدهوسات!!
تخيّلَ تصويرًا جويًّا يرسم تحركّاتها ومسارات هجومها، هذا أقل ما يمكن تقديمه للأرض والناس، لتكنْ نشرة أخبارَ الطقس وحدثَ الساعة الذي يجري منذ منذ أيام، ولكنْ، من يتحدّث عن هجوم لا يتوقف؟ عن كائنات تسدّ الأفق قبل أن تهبط وتجرش الأرض، منذ وقت طويل، لم يشاهد الناسُ شيئًا كهذا، ها هي تتحوّل في اليوم السابع إلى رعب يحجب ضوء الشمس ويهدّد المزروعات القليلة، لا شيء ولو معلومة في شريط خبريّ، يَتردد في ذاكرته معلومات قديمة تحذّر من أكل الجراد تجنّبًا لخطر المبيدات. أيّ مبيدات هذه التي لم تخلص الأرض والناس منها؟!
نعم، هزّ رأسه بصمت، إنها مبيدات تنتظر حتى يصيدها الناس ويأكلونها ثمّ تعمل عملها في أجسامهم! ها هو يسافر بلا أية معلومة كحال ذاك الشاب الذي تعطلت سيارته. يواصل السير، ويكاد يقهقه مع فكرة هذا الجراد إمّا أن تأكله أو سيأكلك، هي المجاعات في أزمنتنا غير البعيدة، ربما لاتزال هكذا في بلاد بعيدة ،لكنها عادت، وأعادت مخاوفَ قديمة، وردّد في نفسه :
هذا تدبير من الله، عارضٌ فصْليّ مصاحب للأمطار الغزيرة، أو تحرّك موسميّ لكُتلٍ كثيفة بلا سبب معروف، وتخيّلَ، في مسير تفكير، مزروعاتٍ تجتاحها الأسراب، وتتركها أثرًا بعد عين؛ بدون لسان أو أسنان، هذه الجرادة بفكّ رباعيّ قويّ يقضم الزرع، ويبيد الأوراق، فتتساقط السنابل، ويقلّب المزارع كفّيه على ما زرعه ورعاه أشهرًا، يهلك أمام عينيه في ساعات معدودة!
يواصل سيره، وقد خفّ الجراد المتماوج أمامه، ولم يعد يشعر باصطدامه بالسيارة، وبارتياح متصاعد إلى قلبه، يواصل طريقه، وما هي غير ثوان حتى اصطدم شيء بالزجاج، لأول وهلة، ظنّه من الخارج، لكنّه تكرّر متلاحقا، فاعتراه انتباه يرقى إلى الشكّ، وفي ثوانٍ، سمع الصوتَ يتكرّر من أكثر من جانب، صوتٌ شيء بين الطرق والارتطام، لابد أن يكون من خارج السيارة، لأنّ الزجاج مغلق كما كان يظنّ، لكنّ الأمر غير ذلك؛ فوقوفه للمساعدة أعطى لـ” أمّ عوف” وأخواتها فرصة الدخول إلى جوف السيارة.
سرِيّة نجتْ من الدهس، ونجحت في التسلّل إلى الجبهات الخلفية للمواجهة، بلغة الحرب: إنزال في أرض العدو! أما لسان حال المسافر فـ : أيّ عدوّ أنا في هذا الشهر الكريم مسافرًا إلى بلدتي القريبة!
التفتَ بذهول، ليجد جرادةً عملاقة حطّتْ على كتفه الأيمن، وشرعتْ تحرّك قواطعها، وتقرض لباسه لتصل إلى الجلد واللحم… ورأى ما لا رادّ له: فكٌّ يشرع في النهش، ولحم كتفه يؤكل بعضُه والبعض الآخر يتساقط على ذراعه، والدم ينزّ في مشهد يجعل الموت ممكنًا، ثمّ رأى بقيّة السرب يتحرك للإسناد داخل مقصورة السيارة، لتفعل الأفاعيل بالمقاعد وبملابسه المعلقة، شعر بهبوط اضراري على رأسه، نظر سريعًا في المرآة الداخلية، ليتأكد من هَـوْل ما يجري، كانت ثلاثًا تحك وتَسِنّ كل منها أرجلها الأربع الأمامية وكأنما تتلمّظ استعدادًا لانتقام عظيم ،أما التي أوغلت في الكتف فقد تكلّمت والدم ينزّ من قوارضها :
– لقد شاهدناكَ تدهسُ أمهاتنا وأخواتنا، هكذا سننتقم منك وحيدًا ولن يمنعك زجاج مغلق ولا الهرب بالسيارة التي قتلت أخواتنا بها!!
صرخ بيأس، وفتح ما تبقّى من الزجاج فتطايرت أوراق، وتبعتها ملابسُه المعلقة في الخلف، ولم يجدْ بدًّا من الوقوف على جانب الطريق، فوضع كلّ وزنه على المكابح لتقف السيارة، وفي حالة اصطدام بحافة السياج، ثم فتح الباب ليغادر، فكانت الأسراب الصفراء تقف له بالمرصاد حول السيارة وفوقها، جحافلٌ تنتظره لتلتصق بوجهه وسائر جسده، وتدخل عبر النوافذ المفتوحة أسرابٌ أخرى تُكمل ما بدأته السريّةُ الصغيرة في نهش المراتب والمحتويات، و تحركت أسراب متكتّلة تطارده بعدوانية وتصميم، يخرج مسرعًا و يبتعد عن السيارة هاربًا يهبط إلى وادٍ سحيق.
تمت قراءة هذا المقال بالفعل75 مرة!
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.
ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق