dark

رييل ستوري | الخصائص الفريدة للعقيدة الإسلامية وآثارها العجيبة في الفرد والمجتمع

اعلانات

الخَصَائِصُ الفريدة للعَقِيدَةِ الإِسلَامِيَّةِ

وآثارها العجيبة في الفرد والمجتمع

إنَّ الإِنْسانَ مَخْلوقٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيرِهِ مِن المَخلُوقَاتِ، فَمِنْ بَيْنِ مَخلُوقَاتِ اللهِ التي لُا تُعَدُّ ولَا تُحصَى اختَارَ اللهُ سُبحَانَهُ هَذَا الإِنسَانَ فِي جُرمِهِ الصَّغِيرِ وتَكوِينِهِ العَجِيبِ وجَعَلَ فِيهِ مِن صِفَاتِ النُّطْقِ والبَيَانِ والإِرَادَةِ والتَّفكِيرِ مَا لَم يَتَيَسَّرْ لِغَيرِهِ مِن المَخلُوقَاتِ.

 

لَقَد وَهَبَ اللهُ الإِنسَانَ مِن الخَصَائِصِ والمَزَايَا الكَثِيرَ الكَثِيرَ إِلَى حَدِّ أَنَّهُ لَم يَستَطِعْ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ المَزَايَا، وأَخَذَتْ دِرَاسَةُ الإِنسَانِ وعَالَمِهِ المَادِّيِّ والرُّوحِيِّ ولا زَالَتْ تَأخُذُ جَانِبًَا كَبِيرًَا مِنْ هَذَا الإِنسَانِ وتَفكِيرِهِ؛ يُفَكِّرُ فِي ذَاتِهِ مَنْ هُوَ؟ ومَا طَبِيعَتُهُ؟ وَمَا هُوَ السِّرُّ الذي يَحْمِلُهُ؟ مَا العَقلُ؟ مَا الرُّوحُ؟ ومِنْ أَينَ أَتَى؟ ولِمَ أَتَى؟ وإِلَى أَيْنَ سَيَذهَبُ؟ ومَا عَلَاقَتُهُ بِالأَشيَاءِ والأَحيَاءِ والأَحدَاثِ مِنْ حَولِهِ؟ وهَلْ هُوَ مُطْلَقُ الحُرِّيَّةِ فِيمَا يَفعَلُ أَو يَتركُ؟ أَمْ أَنَّ هُنَاكَ قُوَّةً تَتَحَكَّمُ فِي إِرَادَتِهِ واختِيَارِهِ؟

 

كُلُّ هذِهِ التَّساؤُلاتِ طَرَحَها العَقْلُ الإِنْسانِيُّ في تَاريخِهِ الطَّويلِ.

 

وقَدْ أَجابَتْ العَقيدَةُ الإِسْلامِيَّةُ عَنْ كُلِّ هذِهِ التَّساؤلاتِ وحَلِّ هذِهِ الأَلْغازِ وأَعْطَتْ رُؤيةً واضِحَةً عَنْ طَبيعَةِ الإِنْسانِ وحَياتِهِ بدايَةً ونِهايَةً وبَيَّنَت مَوْقِعَهُ في هذا الوُجودِ ومَصيرَهُ بَعْدَ هذا الوُجود.

 

بَيَّنت العَقيدَةُ الإِسْلامِيَّةُ أَنَّ الإِنْسانَ لَيْسَ هذا الجَسَدَ المادِّيَّ الظَّاهِرَ فَحَسْب بَلْ هُوَ جَسَدٌ ورُوحٌ وعَقْلٌ، ولِكُلٍّ خَصائِصُهُ واحْتِياجاتُهُ.

 

ورغْمَ مُحاوَلاتِ الفَلاسِفَة الإِجابَةِ على هذِهِ التَّساؤلاتِ التي طَرَحَها العَقْلُ البَشَرِيُّ إِلَّا أَنَّها لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُقَدِّمَ الجَوابَ الشَّافي هذا عَلاوَةً على اخْتِلافِها وتَناقُضِ إِجاباتِها، فَقَدْ زادَتْ الحِيرَةَ والشُّكوكَ حَتّى أَصْبَحَ الشَّكُّ بِذاتِهِ فَلْسَفَةً وظَهَرَتْ نَظَريَّاتُ العَدَمِيَّةِ وعَبَثِيَّةِ الكَوْنِ.

 

وَنسْتَعرِضُ تَاليًا أبرز الخصائص التي تتميَّزُ بها العقيدةُ الإسلاميّة عن غيرها من العقائد، مع التأكيد على أنَّ هذه الخصائص لم تجتمع في غيرها من العقائد أبدًا[1]:

1- العَقِيْدَةُ الإِسلَامِيَّةُ رَبَّانِيَّةٌ:

تَمْتَازُ الْعَقِيدَةُ الإِسْلَامِيَّةُ بِأَنَّهَا، بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا، عَقِيدَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، مُوحَىً بِها مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. قالَ تَعالَى: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾. [البقرة: 138].

 

وَإِنَّنَا لَنُدْرِكُ هَذِهِ الْمَيِّزَةَ حِينَ نُجِيبُ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ التَّالِية:

1- مَنْ عَرَّفَنا بِحَقِيقَةِ وُجُودِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَحَقِيقَةِ الْكَوْنِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيِاةِ؟

2- مَنْ أَخْبَرَنَا بِحَقِيقَةِ يَوْمِ الْقِيامَةِ وَأَحْوالِهِ وَمَا فَيهِ مِنَ الحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؟

3- مَنْ أَعْلَمَنَا بِحَقِيقَةِ وُجُودِ الْمَلائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَسَائِرِ الأُمُورِ الغَيبِيَّةِ؟

4- مَنْ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ اْلكُتُبَ وَطَلَبَ الْإِيْمانَ بِأَرْكَانِ الْعَقِيدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَعَنَاصِرِهَا؟

 

إِنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ، وَغَيْرَهَا مِنْ أَمُورِ العَقِيدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، مَصْدَرُهَا اللهُ وَحْدَهُ. وِقَدْ هَدَانَا إِلَى الإِيْمَانِ بِها عَنْ طَرِيقِ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَمَ مِنْ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيمِ بِوَاسِطَةِ أَمينِ الوَحِي جِبْرِيلَ عَلَيهِ السَّلَام.

 

فَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا مُحَمَدٌ مُتَلَقِيًّا عَنْ رَّبِهِ، وَمُبَلِّغًا عَنْهُ لِلنَّاس. قال تعالى: ﴿.… إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾. [يونس: 15، 16].

 

فَالرَّسُولُ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَمَ مُبَلِّغٌ لِهَذِهِ العَقِيدَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً كَمَا أَوحَاهَا اللهُ إِلَيهِ فِي كِتَابِه الكَرِيم.

 

قَالَ تَعَالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْانٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [يونس: 15].

 

وَلِهَذَا كَانَتِ العَقِيدَةُ الإِسلاَمِيَّةُ، هِيَ العَقِيدَةَ الوَحِيدَةَ، الَّتِي تُلَبِّي حَاجَاتِ الإِنسَانِ وَمَطَالِبَهُ، لِأَنَّهَا بِجَمِيعِ تَفصِيلَاتِهَا مِنْ عِندِ اللهِ تَعَالَى، الَّذِي خَلَقَ الإِنسَانَ وَيَعلَمُ مَا يُوَافِقُ فِطرَتَهُ.

 

وَيَنبَثِقُ (أَيّ: يَصْدُرُ) عَنِ العَقِيدَةِ الإِسلَامِيَّةِ نِظَامٌ كَامِلٌ لِلحَيَاةِ البَشَرِيِّةِ، يَشتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ جَوَانِبِ الحَيَاةِ: الفِكرِيِّةِ والسِيَاسِيَّةِ والاقتِصَادِيَّةِ وَغَيرِهَا. وَهَذَا النِّظَامُ يُطَالِبُ المُسلِمِينَ بِاتِّبَاعِهِ دُوْنَ غَيرِه. قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].

 

2- اتَّفَاقُ العَقِيدَةِ الإِسلاَمِيِّةِ مَعَ الفِطْرَةِ الِإنسَانَيَّةِ:

تَمْتَازُ العَقِيدَةُ الإِسلاَمِيَّةُ، بِأَنَهَا مُوَافِقَةٌ لِلفِطرَةِ الإِنسَانِيَّةِ، فَهِيَ تُلَبِّي ذَلِكَ الإِحسَاسَ الّذِي يَدْفَعُ الإِنسَانَ إِلَى العِبَادَةِ وَالَّذِي يَكْمُنُ فِي أَعْمَاقِ نَفْسِهِ، وَيُشَكِّلُ جُزْءًَا مِنْ ذَاتِهِ وَهُوَ مَا يُسَمّى بِالفِطْرَةِ الإِنسَانِيَّةِ، فَالإِنسَانُ بِفِطْرَتِهِ يَحسُّ بِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَيَشْعُرُ بِالحَاجَةِ إِلَى الاِعتِمَادِ عَلَيهِ، فَيَعْبُدُهُ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيهِ.

 

فَإِذَا كَانَ الإِيمَانُ بِاللهِ فِطْرَةً فِي النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ مِنْ حَقَائِقِ العَقِيدَةِ الإِسلاَمِيَّةِ تَنْسَجِمُ مَعَ هَذِهِ الفِطرَةِ فَتَتقَبَلُهَا النَّفْسُ بِرَاحَةٍ وَطُمَأنِينَةٍ، وَلَا تَتَعَارَضُ مَعَهَا، فِي أَيِّ جَانِبٍ مِن جَوَانِبِهَا.

 

فَاللهُ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَ العَقِيدَةَ هُوَ نَفْسُهُ الَّذِي خَلَقَ النَّفْسَ الإِنسَانِيَّةَ، وَأَوْجَدَ فِيهَا تِلكَ الخَاصِّيَّةَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30].

 

وَالفِطْرَةُ البَشَرِيَّةُ تَحُسُّ بِأَنَّ إِرسَالَ الرُّسُلِ عَلَيهِمُ السَّلاَمُ ضَرُورَةٌ لَازِمَةٌ، ذَلِكَ لِأَنَّ الإِنسَانَ عَاجِزٌ عَنْ رَسْمِ طَرِيْقِ السَّعَادَةِ الَّتِي تُرضِي اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَتُحَقِّقُ لَهُ الخَيرَ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَة. وَمَا دَامَ أَنَّ النَّفسَ الإِنسَانِيَّةَ قَد اطْمَأَنَّتْ إِلَى الخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى صِدْقِ أَنبِيَائِهِ، فَإِنَّهَا – بِحُكْمِ ذَلِكَ – تُصَدِّقُ بِجَمِيعِ الأُمُورِ الغَيبِيَّةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا اللهُ عزَّ وَجَلَّ فِي كُتُبِهِ السَّمَاوِيَّة.

 

وَتَنْسَجِمُ نَظْرَةُ العَقِيدَةِ الإِسلَامِيِّةِ إِلَى الإِنسَانِ مَعَ فِطرَتِهِ وَواقعِهِ. فَهِيَ تُقَرِّرُ أَنَّ الإِنسَانَ جِسْمٌ وَعَقْلٌ وَرُوْحٌ، وَهَذِهِ الجَوَانِبُ تُشَكِّلُ النَّفْسَ الإِنسَانِيَّةَ المُتَكَامِلَةَ، وَلَا تَرَى تِلْكَ العَقِيدَةُ أَيَّ انْفِصَالٍ بَيْنَ هَذِهِ المُكَوِّنَاتِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 71، 72].

 

وَالعَقِيدَةُ الإِسلِامِيَّةُ جَعَلَتْ العَقْلَ مَنَاطَ التَّكلِيفِ، فَجَمَعَتْ بِذَلِكَ بَيْنَ المُكَوِّنَاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِلنَّفْسِ الإِنسَانِيَّةِ، وَبِالتَّالِي تَتَوَافَقُ مَعَ وَاقِعِ تِلكَ النَّفسِ وَحَقِيقَتَهَا.

 

وَالَّذِي نَرَى أَنَّهُ لَو تُرِكَ الإِنسَانُ عَلَى فِطْرَتِهِ دُوْنَ تَدَخُّلٍ مِنَ العَوَامِلِ الخَارِجِيَّةِ (أَيّ: عَوَامِل طَمْسِ الفِطْرَةِ وَتَشوِيهِهَا) لَاهْتَدَى إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلآمَنَ بِاللهِ رَبًَا، وَبِالإِسلَامِ دِينًَا، وَبِمُحَمَدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَمَ نَبيًّا وَرَسُولًا.

 

3- اقْتِنَاعُ العَقْلِ بِالعَقِيدَةِ الإِسلَامِيَّةِ:

إِنَّ إِيمَانَ المُسلِم يَقُومُ عَلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ يَعْتَمِدُ عَلَى البَرَاهِينِ: العَقْليَّةِ، وَالنَّقْلِيَّةِ (أيّ؛ الَّتِي نُقِلَتْ إِلَينَا عَنْ طَرِيقِ القُرآنِ وَالسُّنَةِ) الثَّابِتَةِ. وَمِنْ هُنَا فَقَدْ حَارَبَ الإِسلَامُ الإِيمَانَ القَائِمَ عَلَى التَّقلِيد لِأَنَّهُ سُرعَانَ مَا يَتَزَعْزَعُ مِثْلُ هَذَا الإِيمَانِ، وَلَا يَدْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى العَمَلِ بِهِ، وذَلِكَ لِعَدَمِ قِيَامِ المُبَرِّرَاتِ الكَافِيَةِ لِلتَّمَسُّكِ بِه، فَضْلًا عَنْ حَمْلِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيهِ.

 

لِذَلِكَ نَرَى أَنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يَسْتَنْكِرُ التَّسوِيَةَ بَيْنَ الإِيمَانِ المُبْصِرِ الوَاعِي الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّلِيلِ وَبَيْنَ الإِيمَانِ الأَعمَى الَّذِي لَا يَقُومُ عَلَى دِلِيلٍ، قال تعالى: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19].

 

وَقَالَ تَعَالَى يَلفِتُ نَظَرَ الإِنسَانِ إِلى اسْتِعمَالِ العَقْلِ فِي التَّعَرُّفِ عَلَى الغَايَةِ مِنَ الحَيَاةِ: ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].

 

وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ مُوَجِّهًا عِبَادَهُ إِلى التَّفَكُّرِ فِي أَنفُسِهِم لِيُؤمِنُوا بِاللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، إِيمَانًا قَلبِيًّا عَن دَلِيلٍ، وَاقْتِنَاعٍ عَقْلِيٍّ: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَـبْلُغُواْ أَشُدَّكُـمْ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخًا وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [غافر: 67].

 

وَمَعْرِفَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقُومُ عَلَى قَوَاعِدَ عَقلِيَّةٍ ثَلَاثٍ لَا يُخَالِفُ فِيهَا أَحَدٌ وَهِيَ:

أَوَلًا: لِكُلِّ فِعْلٍ فَاعِلٌ… فَالعَدَمُ لَا يَفْعَلُ شَيئًا.

ثَانِيًا: الفِعْلُ مِرآةٌ لِقُدْرَةِ فَاعِلِهِ.

 

ثَالِثًا: لَيْسَ الفَاعِلُ مَنْ لَا يَمْلِكُ القُدْرَةَ عَلَى الفِعْلِ، لِأَنَ فَاقِدَ الشَّيءِ لَا يُعْطِيهِ، وَحِينَ تُوَجِّهُنَا العَقِيدَةُ الإِسْلَامِيَّةُ لِنُفَكِّرَ فِي هَذَا الكَونِ، وَنُشَاهِدَ مَا فِيهِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَخَصَائِصَ مَبْنِيَّةٍ عَلَى أَسبَابٍ وَقَوَاعِدَ، فَإِنَّنَا نَحْكُمُ مُبَاشَرَةً وَبِالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الكَوْنِ خَالِقًَا مُدِبِّرًَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ ﴾ [الطور: 35-36]

 

يَسْتَطِيْعُ العَقْلُ أَنْ يَتَعَرَّفَ عَلَى بَعْضِ صِفَاتِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حِيْنَ يَتَفَكَّرُ فِي هَذَا الكَونِ، فَيَرَى الأَحْدَاثَ الكَونِيَّةَ مُحكَمَةً فِي نِظِامِهَا، فَيَشْهَدُ أَنَّهَا مِنْ صُنْعِ حَكِيمٍ عَلِيْمٍ، مُوَجَّهَةً فِي مَسِيْرِهَا، فَيُقِرُّ بِأَنَّهَا مِنْ صُنْعِ مُرِيْدٍ قَدِيْرٍ، عَظِيْمَةً فِي تَكْوِينِهَا فَيُصَدِّقُ أَنَّهَا مِنْ صُنْعِ قَوِيٍّ عَزِيْز، خَاضِعَةً لِنِظَامٍ مُوَحَّدٍ، فَيَشْهَدُ أَنَّهَا مِنْ صُنْعِ الحَكِيمِ المُهَيْمِنِ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الإِنْسَانُ مَعْرِفَةً بِالكَوْنِ وَبِنَفْسِهِ، ازْدَادَ مَعْرِفَةً بِاللهِ سُبْحَانَهُ وَقُرْبًَا مِنْهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الأَشْيَاءِ يَجِدُ العَقْلُ فِيْهَا رَاحَتَهُ وطَمَأنِينَتَهُ وَسَعَادَتَهُ.

 

وَلَا نُبَالِغُ إِذَا قُلْنَا: “إِنَّ العَقِيدَةَ الإِسلَامِيَّةَ تَكَادُ تَنْفَرِدُ بِأُسلُوبِهَا مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ العَقَائِدَ؛ إِذْ أَنَّهَا تُخَاطِبُ العَقْلَ دَائِمًَا وَتَقرنُ بَيْنَ دَعْوَةِ الإِنْسَانِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَبَيْنَ لَفْتِ نَظَرِهِ إِلَى آثَارِ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى لِكَثِيرٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَتَدْعُو العَقْلَ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي نِظَامِ الكَونِ المُحْكَمِ المُتَنَاسِقِ، فَتَجْعَلُ آثَارَ قُدْرَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي المَحْسُوسَات (الأُمُورِ الحِسِّيَّةِ) دَلِيلًا عَلَى الإِيمَانِ بِه، والالتِزَامِ بِتِلكَ العَقِيدَةَ”. وَمِثَالٌ عَلَى ذَلِكَ قولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [الذاريات: 47-50].

 

وَإِنَّ مَنْ يَتَدَبّرُ القُرآنَ الكَرِيمَ، المَصدَرَ الأوَّلَ لِهَذِهِ العَقِيدَةِ السَّامِيَةِ، لَيُدْهَشُ مِنْ كَثرَةِ التَّوجِيهَاتِ إِلى اسْتِعمَالِ العَقْلِ وَالدَّعوَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي الكَونِ، وَمُحَاكَمَةِ الأَشْيَاءِ وَتَعْلِيلِ الظَّوَاهِرِ، وَأَثَرِ ذَلِكَ فِي بِنَاءِ العَقِيدَةِ الإِسلَاميِّةِ بِنَاءً قَوِّيًا مَتِينًَا، يَبْعُدُ بِنَا عَنِ الجُمُودِ وَالتَّقلِيدِ، وَإِنَّ مَا وَضَعَهُ الإِسَلامُ مِنْ قُيُودٍ وَحُدُودٍ لِلعَقْلِ، إِنَّمَا تَتَمَثَّلُ فَقَطْ بِاستِعمَالِهِ فِي مَجَالِهِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُبدِعَ فِيهِ، وَمَجَالُهُ وَاسِعٌ جِدًَا. وَهَذَا مَا دَفَعَ “جوستاف لوبون” إِلى أَنْ يَقُول: “قَدْ أَكُونُ غَيرَ مُسلِمٍ، وَلَكِنَّنِي مُضْطَرٌّ إِلى القَولِ بِأَنَّ الإِسلَاَمَ وَحدَهُ هُوَ الدِّينُ الَّذِي يَجِدُ الإِنسَانُ فِيهِ رُوحَهُ وَأَشوَاقَهُ وَمُستَقبَلَهُ”[2].

 

4- الوُضُوحُ والبَسَاطَةُ:

تَمْتَازُ العَقِيدَةُ الإِسلَامِيِّةُ بِوُضُوحِهَا وَسُهُولَتِهَا وَيُسْرِهَا، إِذْ يِستَطِيعُ أَنْ يَفْهَمَهَا النَّاسُ عَلَى اخْتِلَافِ مُسْتَوَيَاتِهِم العَقْلِيَّةِ وَالثَقَافِيِّةِ وَالاجتِمَاعِيِّةِ، وَيَجِدَ كُلٌّ فِيهَا مُتْعَةً فِي دِرَاسَتِهَا وَفَهْمِهَا، فَهِيَ لَيْسَتْ رُمُوزًَا مُعَقَّدَةً، تَحْتَاجُ إِلى مَنْ يُفَسِّرُهَا، وَلَا فُرُوضًَا عَقْلِيَّةً جَافَّةً لَا يَستَطِيعُ أَن يَتَصَوَّرَهَا إِلَّا القِلَّةُ مِنَ النَّاسِ.

 

وَهِيَ تَقُومُ عَلَى حَقَائِقَ وَاضِحَةٍ، يَرَى الإِنسَانُ آثارَهَا فِي وَاقِعِ الحَيَاةِ، فَأَسَاسُها التَّوحِيدُ الَّذِي يُوَضِّحُ العَلَاقَةَ بَيْنَ الإِنَسَانِ وَرَبِّهِ، وَيُوَضِّحُ الطَّرِيقَةَ الَّتِي يَتِمُّ فِيهَا إِيصَالُ الهَدْيِ الرَّبَانِيِّ إلى النَّاسِ عَن طَرِيقِ الأَنبَيَاءِ عَلَيهِمُ السَّلام، وَهِيَ تَتَجَاوَبُ – كَمَا قُلنَا – مَعَ الفِطرَةِ الإِنسَانِيَّةِ، وَلَيسَ فِي قَضَايَاهَا مَا يَصْطَدِمُ بِالعَقلِ، أَو يُخَالِفُ فِطْرَةَ الإِنسَان.

 

فَاللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ لَيسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الخَلْقِ، وَهُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيءٍ لَيسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلك، وَهُوَ الرَّزَّاقُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهُوَ الحَاكِمُ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ السُّلطَانِ عَلَى كُلِّ شَيءٍ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيء.

 

وَتُقِيمُ العَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ عَلَاقَةً وَاضِحَةً بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ؛ فَاللهُ هُوَ المَعبُودُ وَالإِنسَانُ هُوَ العَابِدُ، فَالصِّلَةُ بَيْنَ العَبْدِ وَخَالِقِهِ هِيَ صِلَةُ العُبُودِيَّةِ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 

فَيَتَّجِهُ العَبْدُ إِلَى رَبِّهِ مُبَاشَرَةً، فَلَا وَسَاطَةَ بَيْنَ العَبدِ وَخَالِقِهِ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَعِيمًَا أَمْ هَيئَةً دِينِيَّةً، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

 

فَبَابُ الرَّحمَةِ مَفْتُوحٌ لِلجَمِيعِ، والعِبَادَةُ وَالاستِغفَارُ وَالتَّقّرُبُ تَصِلُ إِلَى اللهِ مُبَاشَرَةً. وَالإِسلَامُ، كَذَلِكَ، يَعْرِضُ العَقِيدَةَ بِأُسلُوبٍ سَهْلٍ مَيسُورٍ، يَعْرِضُهَا تَارَةً مِنْ خِلَالِ المَشَاهِدِ الكَونِيَّةِ، الَّتِي تُظْهِرُ قُدْرَةَ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا فِي قَولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيْهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيب * وَنَزَّلْنِا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًَا لِلّعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ ﴾ [ق: 6-11].

 

وَتَارَةً أُخرَى يَعْرِضُهَا مِنْ خِلَالِ النَّفسِ الإِنسَانِيَّة، وَمَا فِيهَا مِن عَجَائِبَ وَخُطُوطٍ مُتَقَابِلَةٍ: كَالفَرَحِ وَالغَضَبِ وَالحُبِّ وَالكُرْهِ وَالشَّجَاعَةِ وَالخَوفِ، وَالتَّضحِيَةِ وَحُبِّ الحَيَاةِ، إلخ.[3].

 

“وَتَارَةً مِنْ خِلَالِ القَضَايَا الاجتِمَاعِيَّةِ، مِن خِلَالِ مَسِيرَةِ المُجتَمَعِ الإِسلَامِيِّ، لِتُؤْتِيَ العَقِيدَةُ ثِمَارَهَا سُلُوكًَا وَخُلُقًَا وَالتِزَامًا”.

 

وَتَارَةً مِنْ خِلَالِ المُقَارَنَةِ مَعَ العَقَائِدِ الأُخرَى بِأُسلُوبٍ سَهْلٍ وَاضِحٍ مَيْسُورٍ.

 

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ العَقِيدَةَ الإِسلَامِيَّةَ تَخْلُو مِنَ التَّعْقِيدِ، وَلَا تُكَلِّفُ الإِنسَانَ فَوقَ طَاقَتِهِ، يَظْهَرُ مِن قَولِهِ تَعَالى: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].

 

5- الإِيجَابِيَّةُ:

إِنَّ هَذِهِ العَقِيدَةَ بِمُجَرَّدِ أَنْ تُلَامِسَ القَلْبَ وتَستَقِرَّ حَقِيقَتُهَا فِي وُجدَانِ المُسلِمِ، تَظهَرُ آثارُها أَعمَالًا في حَيَاةِ الإِنسَانِ وَوَاقِعِ مُجتَمَعِهِ، فَالعَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ لَا تَكتَفِي بِمَعلُومَاتٍ مُجَرَّدَةٍ تَحفَظُهَا الذَّاكِرَةُ وَيَعِيشُهَا العَقلُ آمَالًا وَتَأمُّلَاتٍ، وَإِنَّمَا هُنَاكَ تَلَازُمٌ بَينَ العِلمِ وَالعَمَلِ، وَبِمُجَرَّدِ اعتِنَاقِهَا تَنطَلِقُ قُدرَاتُ الإِنسَانِ وَاستِعدَادَاتُهُ لِلعَمَلِ، فَيَتَحَوَّلُ مِنْ تَائِهٍ إلى عَابِدٍ لِلهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَتَحَوَّلُ مِنْ تَوَاكُلِهِ إِلى اتِّخَاذِ الأَسبَابِ وَتَحَمُّلِ المَسؤوليَّةِ، وَتَدْفَعُهُ إلى أَنْ يَشْعُرَ بِأَنَّهُ وُجِدَ لِيَقُومَ بِرِسَالَةٍ تَتَطَلَّبُ مِنهُ العَمَلَ والتَّضحِيَةَ، وَالجِهَادَ وَالاندِفَاعَ فِي سَبِيلِ الخَيرِ، وَتُقِيمُ عَلَاقَةً بَينَهُ وَبَينَ خَالِقِهِ تَقُومُ عَلَى الحَبِّ وَالمَوَدَةِ وَالاعتِزَازِ بِاللهِ سُبحِانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي يُشْعِرُ المُسلِمَ أَنَّهُ بِجَانِبِهِ يُعِينهُ وَيُسَهِّلُ لَهُ الصَّعبَ وَيُيَسِّرُ لَهُ طَرِيقَ النَّجَاةِ، فَهُوَ يَتَعَامَلُ مَعَ إِلَهٍ حَيٍّ قَادِرٍ يَسْتَمِعُ فَيُجِيبُ، لَا مَعَ طَبِيعَةٍ جَامِدَةٍ خَرْسَاءَ أَو صُدفَةٍ عَميَاء.

 

إِنَّ إِيجَابِيَّة العَقِيدَةِ تُشعِرُ المُسلِمَ بِتَسخِيرِ اللهِ تعالى لِهَذَا الكَون لِمَصلَحَتِهِ، وَتُشْعِرُ المُسلِمَ كَذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ مَا فِي الكَونِ إِنَّمَا وُجِدَ لِيَستَفِيدَ مِنهُ وَيَنتَفِعَ، وَبِالتَّالي فَإِنَّهَا تُحَقِّقُ التَّفَاعُلَ بَيْنَ الإِنسَانِ وَالكَونِ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ، وَيَندَفِعُ الإِنسَانُ بِكُلِّ طَاقَاتِهِ لِلعَمَلِ.

 

فَتُصْبِحُ العَقِيدَةُ هِيَ المُحَرِّكَ لِلإِنسَانِ، تُحَوِّلُهُ مِنْ إِنسَانٍ مُعَطَّلِ القُوَى وَالطَّاقَاتِ، إِلى إِنسَانٍ مُؤَثِّرٍ يَتَفَاعَلُ مَعَ الأَحدَاثِ يُوَجِّهُهَا وَيَتَأَثَّرُ بِهَا.

 

وَتُشعِرُهُ بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالعَمَلِ، فَيَندَفِعُ إِلى أَخذِ مَكَانِهِ فِي هَذَا الكَونُ وَتُشعِرُهُ أَيضًَا بِأَنَّ عَمَليَّةَ التَّغييرِ فِي الوَاقِعِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِهِ، وَبِمِقدَارِ مَا يَبذُلُ. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].

 

وَكَذَلِكَ فَإِنَّ العَقِيدَةَ الإِسلَّاميِّةَ، تُشْعِرُ المُسْلِمَ بِأَنَّ كُلَّ اكْتِشَافٍ عِلمِيٍّ يَصِلُ إِلَيهِ الإِنسَانُ بِجُهُودِهِ وَبِخَصَائِصِهِ الَّتِيِ أَودَعَهَا اللهُ فِيهِ، هِيَ نِعْمَةٌ تُوجِبُ شُكرَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَلَا مَجَالَ لِلتَّوَاكُلِ وَالعَجْزِ وَوَضْعِ المَسْؤُولِيَّةِ عَلَى الآخَرِينَ، بَل يَتَحَمَّلُ المُسْلِمُ المَسْؤُولِيَّةَ كَامِلَةً مُقَابِلَ الجَزَاءِ الأَوْفَى يَومَ القِيَامَةِ قَالَ صَلَّى اللهُ عِلَيهِ وَسَلَّمَ: “كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”.

 

وقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

 

وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي جَعَلَ العَرَبِيَّ الأَوَّلَ – وَقَدْ كاَنَ مُتَقَوقِعًَا عِلِى نِفْسِهِ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ وَيَعِيشُ عَلَى هَامِشِ الحَيَاةِ – يَنْطَلِقُ إِلَى الدُّنيَا كُلِّهَا مُعْلِنًا رَايَةَ “لَا إِلَه إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهَ”، بَاذِلًا كُلَّ جُهْدٍ مِن أَجْلِ تَحرِيرِ الشُّعُوبِ مِنَ العُبُودِيَّةِ…

 

نَعَمْ إِنَّ الإِسلَامَ هُوَ الَّذِي دَفَعَ ذَلِكَ العَرَبِيَّ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَإِلَى مِصْرَ وِالهِنْدِ وَالصِّينِ وَإِفْرِيقْيَا، فَمَا أَنْ تَطَأَ قَدَمُ مُسْلِمٍ مُلْتَزِمٍ بِدِينِهِ أَرْضًَا سَوَاءٌ أَكَانَ تَاجِرًَا أَمْ طَالِبًَا أَمْ عَامِلًا، إِلَّا وَيَنْدَفِعُ لِنَشْرِ دِينِهِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ المَظلُومِينَ وَإِنقَاذِ المَحْرُومِينَ وَالتَّصَدِّي لِلْمُنْكَرِ، وَالعَمَلِ عَلَى إِقْرَارِ المَعْرُوفِ.

 

وَهَكَذَا فَإِنَّ المُسْلِم يَنْدَفِعُ بِكُلِّ طَاقَاتِهِ وَاسْتِعْدَادَاتِهِ إِلى العَمَلِ لِلدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَحَمْلِ الرِّسَالَةِ السَّمَاوُيَّة، الَّتِي كَانَ شِعَارُ أَتْبَاعِهَا عَلَى لِسَانِ “رِبْعِيِّ بِن عَامِرٍ” (ابْتَعَثَنَا اللهُ لِنُخْرِجَ العِبَادَ مِن عِبَادَةِ العِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّ العِبَادِ، وَمِنْ جَوْرِ الأَديَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسلَامِ، وَمِنْ ضِيْقِ الدّنُيَا إِلَى سَعَةِ الآخِرَةِ).

 

وَهُنَا نُشِيرُ إِلَى أَنَّ كُلَّ الجَوَانِبِ الفِكْرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَالاقْتِصَادِيَّةِ، وَالقِيَمِ الَّتِي تَمَثَّلَتْ فِي الدَّورِ التَّارِيخِيِّ لِلإِسلَامِ، كَانَتْ بِفَضْلِ تِلكَ العَقِيدَةِ الفَاعِلَةِ المُؤَثِّرَةِ. وَلَولَا تِلْكَ العَقِيَدَةِ لَمَا كَانَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ تِلْكَ الأَمْجَادِ الحَضَارِيَّةِ الَّتِي نَفْخَرُ بِهَا إِلَى اليَوم.

 

6- الشُّمُول:

قال تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].

 

لَمَّا كَانَت هَذِهِ العَقِيدَةُ مُوحَىً بِها مِنْ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَقَدْ جَاءَتْ بِتَصَوُّرٍ شَامِلٍ وَتَعْرِيفٍ كَامِلٍ عَنْ حَقِيقَةِ الخَالِقِ الرَّازِقِ المُّحْيِي المُمِيتِ، وَأَعْطَتْ الإِنسَانَ تَصَوُّرًا شَامِلًا عَنِ الكَونِ وَالحَيَاةِ وَالإِنسَانِ، وَكَشَفَت لِلمُسلِمِ عَنْ تِلْكَ الحَقَائِقِ وَجَعَلَتْهُ يَعِيشُ فِي النُّور. وَمِنْ عَنَاصِرِ خَصِيصَةِ الشُّمُولِ فِي العِّقِيدَةَ الإِسلَامِيَّة مَا يَلِي:

أولًا: إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الخَالِقُ: فَخَالِقُ الكَونِ وَالحَيَاةِ وَالإِنسَانِ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، المُتَّصِفُ بِصِفَاتِ الكَمَالِ فِي كُلِّ شَيءٍ، فَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيءٍ: عَالِمٌ بِطَبِيعَةِ الإِنسَانِ وَمُيُولِهِ، وَمَا يُصْلِحُهُ وَمَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ خَالِقُهُ، وَهُوَ صَاحِبُ الحَقِّ فِي وَضْعِ النِّظَامِ الَّذِي تَسِيرُ عَلَيهِ حَيَاةُ الإِنسَانِ لِتَتَّفِقَ مَعَ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَهُ اللهُ عَلَيهَا. وَاللهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَظْهَرُ وَحْدَانِيَّتُهُ مِنْ خِلَالِ وِحْدَةِ نِظَامِ الكَونِ الَّذِي خَلَقَهُ، لَا يُشَارِكَهُ فِي مُلكِهِ أَحَدٌ. فَهُوَ الإِلَهُ والرَّبُّ وَالمُسْتَحِقُّ لِلعِبَادَةِ، وَهُوَ المُعْطِي وَهُوَ المَانِعُ….

 

ثَانِيًا: النَّظْرَةُ إِلَى الكَوْنِ: وَالعَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ تُعَرِّفُ الإِنسَانَ بِحَقِيقَةِ الكَونِ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ للهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فِيهِ الأَحيَاءُ وَفِيهِ الجَمَادَاتُ، وَمِنْهُ المُشَاهَدُ الَّذِي نَرَاهُ وَنَحِسُّهُ، وَمِنْهُ الغَيْبَ الَّذي لَا نَطَّلِعُ عَلَيهِ، إِلَّا بِعِلْمِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَالعَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ أَبَانَتْ لِلإِنسَانِ خَصَائِصَ هَذَا الكَونِ وَقَوَانِينَهُ وَنَوَامِيسَهُ، فَالكَونُ لَم يُخْلَقْ عَبَثًَا، وَإِنَّمَا خُلِقَ لِغَايَةٍ، وَهُنَاكَ أَسبَابٌ وَمُسَبِّبَاتٌ، وَهُنَاكَ حَرَكَةٌ وَقَوَانِينُ، وَالكَونُ لَهُ مَصِيرٌ يَنْتَهِي إِلَيه.

 

وَأَوْضَحَتْ العَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ صِلَةَ الكَونِ بِخَالِقِهِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ يَسِيْرُ عَلَى قَوَانِينَ أَوْجَدَهَا الخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالظَّوَاهِرُ الكَونِيَّةُ شَاهِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلُّ قَوَانِينِ الكَونِ وَخَصَائِصَهُ وَنَوَامِيسَهُ، إِنَّمَا وُجِدَتْ لِتُهَيئَ الحَيَاةَ لِلإِنسَانَ عَلَى هَذَا الكَوْن.

 

وَتُشِيرُ العَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ أَيْضًَا إلى أَنَّ كُلًّا مِنَ الكَونِ وَالإِنسَانِ صَادِرٌ عَنْ إِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ إِرَادَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 

ثَالِثًا: مَعْرِفَةُ الإِنْسَانِ لِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ: فَالعَقِيدَةُ الإِسْلَامِيَّةُ تُعَرِّفُ الإِنْسَانَ بِحَقِيقَةِ نَفْسِهِ تَعْرِيفًَا شَامِلًَا؛ فَالإِنسَانُ جِسْمٌ وَعَقْلٌ وَرُوْحٌ، وَقَدْ كَشَفَتِ العَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ عَن مَصْدَرِ خَلْقِ هَذَا الإِنسَانِ، وَأَوضَحَتْ غَايَةَ وُجُودِهِ، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

 

وَفَصَّلَ تِلْكَ الغَايَة َفِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَاتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 77-78].

 

وَكَذَلِكَ بَيَّنَتْ العَقِيدَةُ الإِسلَاِميِّةُ أَنَّ الإِنسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَخُلِقَ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى تِلْكَ الهَيْئَةِ، وَبَيَّنَتْ أَطْوَارَ خَلْقِ الإِنسَانِ، وَكَذَلِكَ مَكَانَتَهُ وَدَورَهُ فِي هَذَا الوُجُودِ؛ فَهُوَ الكَائِنُ الفَاعِلُ المُؤَثِّرُ – بِإِرَادَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – وَهُوَ المَسؤُولُ بَيْنَ يَدَيْ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَبَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ تِلْكَ الرِّسَالَةَ عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ سَيَعُودُ إِلَى خَالِقِهِ لِيُحَاسِبَهُ عَلَى مَا قَدَّمَ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إلى النَّار.

 

فَتِلْكَ صُورَةٌ وَاضِحَةٌ شَامِلَةٌ تَجْعَلُ الإِنْسَانَ مُطْمَئِنًَا يَسِيرُ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِ، كَمَا قال تعالى: ﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًَّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[الملك: 22].

 

7- الثَّبَاتُ:

العَقِيدَةُ الإِسْلَامِيَّةُ حَقَائِقَ قَدَّرَهَا اللهُ سَبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاللهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيءٍ، عَلِيمٌ لَا يُحِدُّ عِلْمُهُ شَيءٌ، وَبِالتَّالِي فَهَذِهِ الحَقَائِقُ الَّتِي بَيَّنَهَا لَنَا ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ؛ فَوُجُودُ اللهِ حَقِيقَة ٌلَا تَتَغَيَّرُ وَكَونُهُ الخَاِلقَ الرَّازِقَ المُحيِي المُمِيتَ حَقِيقَةٌ كَذَلِكَ لَا تَتَغَيَّرُ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ الكَونَ وَمَا فِيهِ وَتِلكَ حَقِيقَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ. وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَدَّدَ غَايَةَ الإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ وَهِيَ العُبُودِيَّةُ للهِ وَالخِلَافَةُ فِي الأَرضِ وَحَمْلُ رِسَالَتِهِ فَتِلكَ حَقَائِقٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَكَونُ أَنَّ هُنَاَكَ حَيَاةً دُنيَا وَحَيَاةً أُخرَى، أَيضًَا حَقِيقَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَحَقِيقَةُ أَنَّ الإِنسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ رُوحٍ وَعَقْلٍ وَجِسْمٍ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَحَقِيقَةُ أَنَّ الخَالِقَ أَعْلَمُ مِنَ المَخْلُوقِ بِمَا يُصْلِحُهُ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ…

 

وَكُلُّ الحَقَائِقِ الَّتِي أَوْضَحَتْهَا العَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ لِأَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ عِلْمِ العَلِيمِ الخَبِيرِ، وَوُجُودُ المَلَائِكَةِ وَالجِنِّ وَالنَّارِ وَالجَنَّةِ وَاليَومِ الآخِرِ وَكُلِّ مَا أَخبَرَ اللهُ فِي القُرآنِ الكَريِم ِكَذَلِكَ حَقَائِقُ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ.

 

وَأَمَّا مَا يَرَاهُ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِم مِنْ تَغْيُّرٍ وَتَبَدُّلٍ فِي الأَفكَارِ وَالعَقَائِدِ وَالتَّصَوُّرَاتِ فَتِلكَ خَاصَّةٌ بِالتَّصَوُّراتِ وَالعَقَائِدِ الَّتِي صَنَعَتْهَا البَشَرِيَّةُ – كَالوَثَنِيَّةِ وَالشُّيُوعِيَّةِ وَالقَومِيَّةِ – لِأَنَّهَا نَظَرِيَّاتٌ بَشَرِيَّةٌ، تَصَوَّرَهَا العَقْلُ المَحْدُودُ فِي فَتْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ فَتْرَةٍ تَصَوَّرَ غَيرَهَا. وَهَكَذَا يَبْقَى العَقْلُ البَشَريُّ فِي تَبَدُّلٍ وَتَغَيُّرٍ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الإِنسَانِ كَمَا أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى كَذَلِكَ، أَمَّا الخَالِقُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَامِلٌ لَا يَعْتَرِيهِ – سُبْحَانَهُ – نَقْصٌ وَلَا نِسْيَانٌ وَهُوَ عَلِيمٌ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيءٍ.

 

وَيُشَارُ هُنَا إِلى أَنَّهُ بِالرَّغْمِ مِنْ ثَبَاتِ العَقِيدةِ وَأُصُولِهَا وَحَقَائِقِهَا، فَإِنَّ هُنَاكَ مُرُونَةً فِي فُرُوعِ الفِقْهِ الإِسلَّامِيّ وَالشَّرِيعةِ الإِسلامِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالنَّشَاطِ الفِكرِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ وَالاقتِصَادِيِّ وَالدَّولِيِّ لِلإِنسَانِ الفَرْدِ وَللأُمَّةِ المُسلِمَةِ.

 

فَالثَّبَاتُ فِي دِينِنَا لِلعَقِيدَةِ وَأُصُولِ القِيَمِ والأَخلَاقِ وَالعِبَادَاتِ وَقَوَانِينِ الإِرْثِ وَالحُدُودِ، مَا لَا يَتَأَثَّرُ بِاختِلَافِ المَكَانِ واختِلَافِ الزَّمَانِ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ المُعَامَلَاتِ وَالقَوَانِينِ وَالأَنظِمَةِ الضَرُورِّيَّةِ لِلحَيَاةِ اليَومِيَّةِ ولِلتَّقَدُّمِ فِي وَسَائِلِ الحَيَاةِ، فَالمَجَالُ فِيِهِ مَفتُوحٌ وَالمُرُونَةُ مُتَوَفِّرَةٌ ضِمْنَ الإِطَارِ الثَابِتِ وَالمِحوَرِ الثَّابِتِ وَهُوَ: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَّسُولُ الله.

 

وَمِمَّا يَجِبُ التَّأكِيدُ عَليهِ هُنَا أَنَّ ثَبَاتَ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ هُوَ الَّذِي يَحفَظُ لِلأُمَّةِ هَويَّتَهَا وَشَخصِيَّتَهَا وَوِحْدَةَ كيَانِهَا وَاستِقلَالَهَا وَامتِلَاكَهَا لِمُقَدَّرَاتِهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الأُمَّة مَا تَفَكَّكَتْ وَضَعُفَتْ إِلَّا يَومَ تَرَكَتْ عَقِيدَتَهَا وَأَخَذَتْ نَظَرِيَّاتِ البَشَرِ القَاصِرَة، وَرَاحَتْ تَتَسَوَّلُ مِن هُنَا وِمِن هُنَاكَ حَتَّى أَصبَحَتْ فِي ذَيلِ القَافِلَةِ وَأَصبَحَت بِدُونِ هُوُيَّةٍ.

 

وَإِنّنَا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَستَأنِفَ حَيَاتَنَا عَلَى أَسَاسِ الإِسلَام مِنْ جَدِيدٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ العَودَةِ إِلَى هَذِهِ العَقِيدَةِ، لِنَبنِيَ عَلَيهَا أَنظِمَتَنَا وَتَشرِيعَاتِنَا وَتَعَامُلَنَا مَعَ الكَونِ وَحَقَائِقَهِ. وعندئذٍ نَكُونُ أُمَّةً مُتَمَيِّزَةً تَرْتَفِعُ بِمُستَوَاهَا الفِكرِيِّ وَالعِلمِيِّ. وَتَكُونُ لَهَا السُّلطَةُ فِي الأّرضِ بِشَرِيعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 

آثَارُ العَقِيدَة ِالإِسلامِيَّةِ فِي حَيَاةِ الفَرْدِ والأُمَّةِ[4]:

العَقِيدَةُ الإِسلامِيَّةُ – كَمَا تَقَدَّمَ – حَقِيقَةٌ عِلمِيَّةٌ تَظهَرُ آثَارُ تَعَالِيمِهَا عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِها فَتَتَحَوَّلُ التَّعَالِيمُ إِلى سُلُوكٍ وَوَقَائِعَ، وَإِليكَ بَعضَ هَذِهِ الآثَارِ.

 

أَوَّلًا: الشُّعُورُ بِالعِزَّةِ وَالاستِعلَاءُ بِالإِيمَان:

قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]. وقال اللهُ تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]. وقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾[آل عمران: 139].

 

عِندَمَا يَشْعُرُ المُسلِمُ أَنَّهُ يَسْتَمِدُّ مَقْدِرَتَهُ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقِ القُوَّةِ، يَحُسُّ عِندَئذٍ بِأَنَّهُ قَويٌ بِقُوَّةِ اللهِ، فَلَا يَهَابُ قُوَّةً أَرضِيَّةً أَبَدًَا، وَيَشْعُرُ دَائِمًَا أَنَّ عَقِيدَةَ الإِسلَامِ وَشَرِيعَةَ الإِسلامِ فَوقَ كُلِّ عَقِيدَةٍ وَنِظَامٍ، فَيَحْمِلُهَا إِلَى الدُّنيَا، وَهُوَ يَشْعُرُ بِالعِزَّةِ وَالاستِعلَاءِ؛ حَيْثُ أَنَّهُ يَحْمِلُ أَفْضَلَ عقَيِدَةٍ وَأَكرَمَ رِسَالَةٍ، وَيَمُدُّهُ اللهُ بِقُوَّتِهِ وَبِعِزَّتِهِ فَيَبْقَى يَرتَفِعُ دَائِمًَا إِلَى أَعلَى، فَهُوَ الأَعلَى بِمَا يَحمِلُ مِن عَقِيدَةٍ صَافِيَةٍ، مَصدَرُهَا اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ الأَعلَى بِمَا يَتَحَمَّلُ مِن مَسؤُولِيَّةٍ وَهِيَ خِلَافَةُ اللهِ فِي الأَرض، وَهُوَ الأَعلَى فِي سُلُوكِهِ وَخُلُقِهِ إِذْ أَنَّهُ يَستَمِدُّهُ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ. وَهُوَ الأَعلَى بِمَا يَحمِلُ لِلبَشَرِيَّة من شَرِيعَةٍ وَنِظَامٍ يَرفَعُ مِن قَدْرِ الإِنسَانِ وَيُكَرِّمُهُ وَيُهَذِّبُ مِن أَخلَاقِهِ وَسُلُوكِهِ، فَيَربِطُهُ بِاللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالى. فَيَشْعُرُ عِندَئِذٍ بِضَآلةِ كُلِّ قوى الأرض الكافرة، وَيَستَهِينُ بِكُلِّ المُعَوِّقَات الَّتِي تَحُولُ بَينَهُ وَبَينَ حَمْلِ رِسالةِ الإِسلام، وَيَمضِي على الدَّربِ عَزيزًا كَريمًا لَا يذلُّ، وَلَا يَأبَهُ بِأَيِّ قُوةٍ مَهمَا عَظُمَتْ، سوى قُوَّةِ اللهِ عَزَّ وَجلَّ، الَّتِي تَغْلِبُ كُلَّ قُوَّةٍ، فَيَمضِي حَامِلًا رِسَالَةَ الله إلى النَّاس، رَافِعًَا رَأسَهُ إلى السَّمَاءِ، دَاعِيًا أُمَّتَهُ إلى المَكَانَةِ الَّتي أَرَادَهَا اللهُ لَهَا، وَهِيَ الوِصَايَةُ عَلَى البَشَرِيَّةِ وَالسّيَادَةُ عَلَى الأَرضِ بِشَرِيعَةِ اللهِ.

 

وَهُنا نُوَضِّحُ أنَّ الاستِعلَاءَ الَّذِي يُرِيدُهُ الإِسلامُ لَيسَ غُرُورًَا وَلَا كِبرِيَاءً لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَمقُتُهَا الإِسلَامُ دَائِمًَا فَالاستِعلَاءُ الحَقِيقِيُّ هُوَ الاعتِزَازُ بِاللهِ وَصِيَانَةُ النَّفسِ عَن كُلِّ مَذَلَّةٍ، وَالشُّعُورُ دَائِمًا -فِي حَالَةِ النَّصرِ أَو الهَزِيمةِ فِي المَعرَكَةِ – بِالاستِعلاءِ بِتِلكَ الرِّسَالَةِ، فَلَا يَذِلُّ وَلَا يَخْنَعُ وِلا يِكُونُ تَبَعًَا لِأَحَدٍ.

 

وَالاستِعلَاءُ خُلُقٌ أَصيلٌ في المُسلم يُلَازِمُهُ في كُلِّ أَحوَالهِ، فَي السَّرَّاء والضَّرَّاء، فِي الانتِصارِ على الأعداءِ، وَفي حَالَةِ انتِصَارِ الأَعدَاءِ عَلَيهِ، الاستِعلَاءُ وَهُو حُرٌ طَلِيقٌ، وَالاستِعلَاءُ وَهُوَ دَاخِلَ القُضبَانِ، لِأَنَّ العِزَّةَ وَالاستِعلَاءَ صِفَتَانِ أَسَاسِيَّتَان لِلمُسلِم تُلَازِمَانِهِ دَائِمًَا، مُرتَبِطَتَانِ بِالعَقِيدَةِ وَالإِيمَان الَّذي لَا يُفَارِقُ المُؤمِنَ أَبَدًَا.

ثانيًا- تَحْرِيرُ العَقْلِ مِنَ الأَوهَامِ وَالخُرَافَاتِ وَتَحْفيزُهُ عَلَى التَّفكِيرِ:

إِنَّ أَوَّلَ مَا اتَّجَهَت إِلَيهِ العَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ هُوَ العَقلُ، فَخَاطَبَتْهُ وَعَمِلَتْ عَلَى تَحرِيرهِ مِن:

أ- التَّقلِيدِ الأَعمَى وَالخُضُوعِ لِلأَفكَارِ وَالعَقَائِدِ وَالعَادَاتِ المَورُوثَةِ، وَقَدْ أَقَامَ الإِسلَامُ عَقِيدَتَهُ عَلَى اليَقِينِ وَحَارَبَ التَّقلِيدَ، فقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [النجم: 28].

 

وَقَالَ تَعَالَى مُنْتَقِدًا المُقَلِّدِينَ: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].

 

فَدَعَتْ العَقِيدَةُ لِأَوّلِ مَرَّةٍ إِلَى اتِّبَاعِ الأُسلُوبِ العِلميِّ في دِرَاسَةِ الظَّوَاهِرِ وَالأَشيَاء، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

 

فَالعَقلُ مَخْلُوقٌ مِن مَخلُوقَاتِ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوَسِيلَةٌ فَعَّالَةٌ لِلتَّفَاعُلِ مَعَ القِوَى وَالظَّوَاهِرِ وَالكَائِنَاتِ، وَلكنَّهُ يَسِيرُ فِي هُدى الوَحْي الَّذِي لَا يَضِلُّ.

 

ب- وَنَتِيجَةً لِذَلِكَ فَقَدْ تَحَرَّرَ العَقْلُ مِنَ الخُضُوعِ لِلأَسَاطِيرِ وَالخُرَافَاتِ وَالأَوهَامِ الَّتِي صَنَعَتْهَا خَيَالَاتُ النَّاسِ حَوْلَ الكَونِ وَحَوْلَ المَخْلُوقَاتِ، فَتَحَرَّرَ العَقْلُ فِي ظِلِّ العَقِيدَةِ الإِسلَامِيَّة – مِن عُبُودِيَّةِ الظَّوَاهِرِ الكَونِيَّةِ، وَتَحَرَّرَ مِن عُبُودِيَّةِ المَلَائِكَةِ وَعُبُودِيَّةِ النُّجُومِ، وَأَصبَحَ العَقْلُ وَسِيلَةً لِكَشفِ خَصَائِصِ تِلكَ الظَّوَاهرِ وَالمَخْلُوقَات، وَارتَفَعَ إِلَى عِبَادَةِ خَالِقِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ – فِي ظِلِّ التَّصَوُّرَاتِ الجَاهِلِيَّةِ – يَعبُدُهَا مِنْ دُونِ اللهِ، فانْحَطَّ تَفْكِيرُ الإِنسَان، وَسُجِنَ عَقْلُهُ ضِمْنَ أَوْهَامٍ وَخُرَافَاتٍ عَاقَتْهُ عَنِ التَّفكِيرِ وَالإِنتَاجِ.

 

وَمِنْ هُنَا لَمْ يَخْضَعْ العَقْلُ لِمَخْلُوقَاتٍ مِثْلِهِ بل عَرَفَ خَالِقَهُ وَعَرَفَ مَجَالَ عَمَلِهِ فَانْطَلَقَ يَعْمَلُ فِيهِ لِاكتِشَافِ المَعْرِفَةِ وَاستِخْدَامِهَا فِي التَقَدُّمِ لِمَصلَحَةِ البَشَرِيَّةِ جَمْعَاء، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُونَ اليَومَ أَنَّ الحَضَارَةَ الغَربِيَّةَ هِيَ الحَضَارَةُ العَقْلِيَّةُ فَقَط، إِنَّ الحَضَارَةَ الإِسلَامِيَّةَ فِي الحَقِيقَةِ هِيَ الَّتِي استَخْدَمَتْ العَقْلَ فِي أَوسَعِ مَجَالَاتِهِ، بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ هَذِهِ المَجَالَات، دُونَ أَنْ يَستَعْبِدَهَا العَقْلُ إِذْ هو مُسَخَّرٌ لَهَا، أَمَّا الحَضَارَةُ الغَربِيَّةُ فَقَدْ عَبَدَت العَقْلَ وَأَلَّهَتهُ.

 

وَقَدْ كَانَ مِنْ أَسَالِيبِ الإِسلَامِ لِبَيَانِ العَقِيدَةِ الإِسلَامِيَّةِ استِخدَامُ الظَّوَاهِرِ الكَونِيَّةِ، وَالنَّفسِ الإِنسَانِيَّةِ لِلوُصُولِ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالتَّعَرُّفِ عَلَيهِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 20-21]. وقال تعالى: ﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [يونس: 101]. وقال أيضًا: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].

 

ثالثًا- رَبْطُ الأَسبَابِ بِالمُسَبِّبَات:

لَقَد بَيَّنَت العَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ أَنَّ هَذَا الكَوْنَ وَكُلَّ شَيءٍ فِيهِ يَسِيرُ وفْقَ نِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ خَاصٍّ، وَأَنَّ كُلَّ مُسَبَّبٍ نَاِتجٌ عَن سَبَبٍ، أَيْ أَنَّ هَذَا الكَونَ لَا يَسِيرُ عَبَثًَا وَلَم يُخْلَقْ هَكَذَا دُونَ غَايَةٍ، وَأَنَّ كُلَّ الظَّوَاهِرِ الكَونِيَّةِ وَالإِنسَانِيَّةِ تَسِيرُ وَفْقَ تَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ وَتَركِيبٍ مُعَيَّنٍ، رُكِّبَتْ أَجْزَاؤُهُ بِدِقَّةٍ وَحُسِبَتْ كَذَلِكَ بِدِقَّةٍ، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ﴾ [الدُّخَان: 38].

 

وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ خَلْقِ الإِنسَانِ: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الرُّوم: 54].

 

وَنَتِيجَةً لِذَلِكَ يَنْطَلِقُ العَقْلُ يَعْمَلُ وَيَكْتَشِفُ بِطَرِيقَةٍ مُنَظَّمَةٍ وَاعِيَةٍ، لِأَنَّهُ يَتَعَامَلُ مَعَ كَوْنٍ مُنَظَمٍ أَيْضًَا. كَمَا أَنَّهُ يَتَعَامَلُ مَعَ كَوْنٍ يَعْرِفُهُ بَعْدَ أَنْ أَطْلَعَهُ اللهُ على مَا فِيهِ. وَطَلَبَ مِنْهُ النَّظَرَ وَالدَّرْسَ وَالبحثَ. وَهُنَا تَجْدُرُ الإِشَارةُ إلى أَنَّ المُسلِمِين هُم أَوَّلُ مَنْ استَعمَلَ مَنَاهِجَ البَحْثِ فِي عُلُومِهِم.

 

رابعًا- تحقيقُ الاستِقَامَةِ فِي حَيَاةِ المُؤمِنِ:

مِنَ الآثَارِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى سُلُوكِ المُؤمِنِ عِنْدَمَا يَلتَزِمُ العَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ، أَنْ تَسْتَقِيمَ نَفْسُهُ عَلَى الحَقِّ وَيُرَاقِبَ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَشْعِرُ تِلْكَ الصِّلَةَ الدَّائِمَةَ مَعَ خَالِقِهِ فَيَستَحِيَ أَنْ يِنْحَرِفَ، وَيُحَاوِلُ تَطْهِيرَ نَفْسِهِ وَشُعُورِهِ وَجَوَارِحِهِ مِنَ الآثَامِ، لِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِقُربِ اللهِ مِنهُ وَمُرَاقَبَتِهِ لَهُ، وَتِلكَ المُرَاقَبَةُ الدَّائِمَةُ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ تَنْظِيفِ الشُّعُورِ وَالحِسِّ وَالجَوَارِحِ هِيَ الضَّمَانَاتُ الأَكِيدَةُ لِلِاستِقَامَةِ، وَإِنَّ نَفْسَ المُؤمِنِ لَتَحُسُّ بِلَسْعِ المُنْكَرِ وَالإِثمِ حِينَمَا تَستَمِعُ إلى قَولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ ق: 16]. فَتُصْبِحُ الاستِقَامَةُ صِفَةً أَصِيلَةً فِي نَفْسِ المُؤمِنِ وَسُلُوكِهِ وَشُعُورِهِ، وَكُلِّ تَصَرُّفٍ يَتَصَرَّفُهُ تَلْمِسُ مِنْهُ الاستِقَامَةَ. وَالعَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ بِهَذَا تُرَبِّي اليَقَظَةَ الذَّاتِيَّةَ فَيُحَاسِبُ الإِنسَانُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِمَسئُولِيَّتِهِ أَمَامَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دُوْنَ وَسِيطٍ.

 

وَمَتَى استَقَامَ وِجْدَانُ المُسْلِمِ وَضَمِيرُهُ استَقَامَتْ نَفْسُهُ، وَمَتَى استَقَامَتْ نَفْسُهُ استَقَامَتْ جَوَارِحُهُ – وَمَتَى استَقَامَ الفَردُ استَقَامَ المُجتَمَعُ، وَعِنْدَئِذٍ يَعِيشُ النَّاسُ فِي سَلَامٍ وَأَمَانٍ مَعَ أَنْفُسِهِم وَمَعَ بَعْضِهِم بَعْضًَا.

 

خامسًا- تَحْقِيقُ الكَرامَةِ لِلإِنسَانِ:

إِنَّ الإِسلَامَ هُوَ العَقِيدَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُحَقِّقُ كَرَامَةَ الإِنسَانِ، وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أُمُورٍ مِنْهَا:

أ- تَحرِيرُهُ مِنَ العُبُودِيَّةِ لِغَيرِ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَا يَتَوَجَّهُ إلى صَنَمٍ بَشَرِيٍّ أَو حَجَرِيٍّ، وَلَا يَعْبُدُ سِوَى اللهِ، وَلَا يَلتَجِئُ إِلَّا للهِ وَلا يَسْتَعِينُ إِلَّا بِاللهِ، وَلَا يَدْعُو إِلَّا اللهَ وَلَا يَخْشَى إِلَّا اللهَ وَلا يَرْجُو إِلَّا اللهَ، فَيَعِيشُ عِنْدَئِذٍ كَرِيمًَا عَزِيزًَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يَضُرَّهُ أَو يَنْفَعَهُ إِلَّا بِإِذْنِ الله. وإذا ما تَحَرَّرَ وِجْدَانُ الإِنسَانِ وَعَقْلُهُ وَنَفْسُهُ وَرُوحُهُ مِن كُلِّ ذَلِكَ، فَقَدْ مَلَكَ كَامِلَ حُرِيَّتِهِ وَبِالتَّالِي شَعَرَ بِكَرَامَتِهِ. وِمِنْ يَشْعُرُ بِالانْتِسَابِ إِلى اللهِ وَحدَهُ هَل يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ ذَلِيلًا أَو يَتَنَازَلَ عَنْ كَرَامَتِهِ؟ لَا وَاللهِ.

 

ب- اعْتِبَارُ العَقْلِ مَنَاطَ التَّكلِيفِ: وَبِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الإِنسَانُ أَنْ يَكُونَ أَرْقَى نَمَاذِجِ الحَيَاةِ، إِذْ هُوَ المُكَلَّفُ بِحَمْلِ المَسْؤُولِيَّةِ وَهُوَ المُكَلَّفُ بِالعِبَادَةِ، وَخَصَّهُ اللهُ بِتِلكَ النِّعمَةِ وَهِيَ نِعمَةُ العَقْلِ، إِذْ جَعَلَهُ وَسِيلةَ الإِنسَانِ لِلتَّعَامُلِ مَعَ الكَونِ وَالحَياةِ، واكتشافِ الخَصائِصِ وَالقَوَانِين. فالإِنسَانُ – بِهَذَا العَقلِ – استحقَّ مَكَانَةً لَمْ تُعْطَ لِأَحَدٍ غَيرِهِ.

 

ج- الخِلَافَةُ فِي الأَرضِ: قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] وَالخِلَافَةُ تَكرِيمٌ مِنَ اللهِ لِلإِنسَانِ، حَيْث كَلَّفَهُ بِعِمَارَةِ الأَرضِ واسْتِثمَارِهَا وَالمَسؤُوليةُ عُنوانُ التَّكرِيمِ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِعُلُوِّ خَصَائِصِ هَذَا الإِنسَانِ وَأَهليَّتِهِ لِلأَمَانةِ. وَهَذا بِلَا شَكٍّ تَكْرِيمٌ مِنَ اللهِ للإنسانِ، لم يَنَلْهُ مَخْلُوقٌ غَيرُهُ.

 

د- تَسخِيرُ الكونِ وَمَا فِيهِ لِلإِنسَان: لقد بَيَّنَتْ العَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ أَنَّ الكَونَ وَمَا فِيهِ مُسَخَّرٌ لِلإِنسَانِ، مَخلُوقٌ لِأَجْلِهِ، لِيَقُومَ بِإعمارِهِ واسْتِثْمَارِ خَصَائِصِهِ وَخَيرَاتِهِ. إِنَّ كُلَّ الظَّواهِرِ الكَونِيَّةِ خُلِقَتْ وَنُظِّمَتْ وَنُسِّقَتْ بِطَرِيقَةٍ تَجْعَلُ حَيَاةَ الإِنسَانِ سَهلَةً مُمكِنَةً مُمتِعَةً، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ [لقمان: 20].

 

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [فاطر: 27].

 

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ [يس: 33-35].

 

هـ- تَحرِيرُ الإِنسَانِ مِنَ الخَوفِ عَلَى الحَيَاةِ وَالرِّزْقِ: إِذْ رَبَطَتْ العَقِيدَةُ الإِسلامِيَّةُ حياةَ الإنسانِ باللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وَرِزْقُهُ عِندَ رَبِّهِ مُقَدَّرٌ لَا يَسْتَطِيعُ كَائِنٌ مَا أَنْ يُنقِصَ مِنْ حَيَاتِهِ ثَانِيَةً أَو يُنْقِصَ مِنْ رِزْقِهِ ذَرَّةً أَو يَزِيدَ.

 

وَعِندَئِذٍ يَنْطَلِقُ المُؤمِنُ عَامِلًَا مُجَاهِدًَا كَرِيمًَا عَزِيزًَا، إِذْ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ العَمَلِ لِكَرَامَتِهِم وَعِزَّتِهِم وَعَقِيدَتِهِم هُوَ الخَوْفُ عَلَى الحَيَاةِ وَالرِّزْقِ فَحَرَّرَ الإِسلامُ الإٍنسَانَ مِنَ الخُضُوعِ لَهَا، وَبِذَا أَكرَمَهُ بِصِفَاتِ الشَّجَاعَةِ وَالإِقدَامِ وَالتَّضحِيَّةِ فَيَعِيشُ كَرِيمًَا أَو يَمُوتُ شَهِيدًَا، وَتِلْكَ أَعلَى مَرَاتِبِ الكَرَامَةِ وَالتَّكرِيمِ.


[1] انظر:

أ- ياسين، محمد نعيم، وآخرون، “التربية الإسلامية”، كتابٌ مُؤَلَّفٌ لصالح المديريّة العامّة للمناهج وتقنيات التعليم بوزارة التربية والتعليم في المملكة الأردنية الهاشمية، ص17-35 بتصرُّفٍ واختِصَارٍ، ط12، 1993 من منشورات وزارة التربية والتعليم، الأردن.

ب- الكردي، راجح عبد الحميد، وآخرون، العقيدة الإسلامية، المستوى الأول، ص14-35، ط1، 1993 بتصرُّفٍ واختصَارٍ، من منشورات جامعة القدس المفتوحة.

ج- الخطيب، محمد أحمد، أصولُ العقيدة الإسلامية ومذاهبُها، ص28-32، ط11، 2011 بتصرُّفٍ واختصَارٍ، دار المسيرة، عمّان.

[2] شلبي، عبد الودود، كيف أرى الله؟ ص1، ط1، 1978، دار الشروق، بيروت.

[3] حلبي، خالص . الطبُّ محرابُ الإيمان، ص142، ط1، 1971م.

[4] انظر:

أ‌- ياسين، محمد نعيم، وآخرون، التربية الإسلامية، (م.س)، ص37-44 بتصرف واختصار.

ب‌- الخطيب، أصول العقيدة الإسلامية ومذاهبها، (م.س)، ص32-38 بتصرف واختصار.



تمت قراءة هذا المقال بالفعل81 مرة!

✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

هل تعلم ماذا يقول الشيطان لأهل النار يوم القيامة؟

Next Post

رييل ستوري | متزوج وأحب فتاة أخرى

Related Posts