dark

رييل ستوري | حكم التلفيق بين أقوال المذاهب الفقهية

اعلانات

حكم التلفيق بين أقوال المذاهب الفقهية

 

صورة المسألة:

التلفيق كلمةٌ في أصلها تدل على ملاءمة الأمر،[1] مأخوذةٌ من لفق الثوب: إذا ضمّ شقةً إلى أخرى، فخاطهما،[2] ومنه أُخذ التلفيق في المسائل[3].

 

والتلفيق في الاصطلاح: هو أن يأخذ بقول مجتهدٍ في مسألة، وبقول غيره في أخرى[4].

تخريج المسألة:

محل البحث هنا في حكم التلفيق بالنسبة للمجتهدين لا المقلدين، وتخرَّج هذه المسألة على اختلاف الأصوليين في مسألة: إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسألتين على قولين؛ مثبتٍ في كلا المسألتين، ونافٍ فيهما، هل يجوز لمن بعدهم التفرقة بينهما؟

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال:

القول الأول: جواز موافقة طائفةٍ في مسألة، وآخرين في غيرها[5].

واستدلوا بأربعة أدلة:

الدليل الأول: أنه فعل الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ لم يقل واحدٌ منهم: تجب مراعاة أحكام مذهبٍ واحدٍ في كل بابٍ أو مسألة؛ لئلا تلفق في عبادتك، أو معاملتك بين مذهبين، أو أكثر[6].

الدليل الثاني: أنه قد وقع ذلك، فتخيّر التابعون من خلاف الصحابة رضي الله عنهم في المسائل، فوافقوا في بعضها بعضهم، ووافقوا في غيرها البعض الآخر[7].

الدليل الثالث:أنه لو صح عدم جواز التفرقة، للزم أن من وافق إمامًا في مسألةٍ أن يوافقه في سائر المسائل، والأمّة مجمعة على خلافه[8].

ونوقش: أن التفرقة ستؤدي إلى تخطئة كل الأمّة؛ إذ يلزم خطأ شطرهم في حكم المسألة الأولى، وخطأ الشطر الآخر في حكم المسألة الثانية، وهذا خطأ لا تجتمع عليه الأمّة[9].

وأجيب: أن الخطأ المحال ليس هو وقوع الخطأ في الأمّة، وإنما هو الخطأ الذي يضيع الحق؛ حتى لا تقوم به طائفة[10].

الدليل الرابع:أن اختلافهم على عدّة أقوال دليلٌ منهم على تسويغ الاجتهاد في هذه المسألة، والقول الملفق جاء أيضًا عن اجتهاد[11].

ونوقش: أن الاجتهاد الذي يسوغ مع اختلافهم هو طلب الحق من هذه الأقوال، وليس إحداث قولٍ جديدٍ ملفق[12].

 

القول الثاني: المنع من موافقة طائفةٍ في مسألة، وآخرين في غيرها[13].

واستدلوا بدليلين:

الدليل الأول: أن الأمّة إذا قال نصفها بالحرمة في المسألتين، وقال نصفها الآخر بالحل فيهما، فقد اتفقوا على اتحاد الحكم في المسألتين، وأنه لا فصل بينهما؛ فيكون الفصل ردًا للإجماع.

ونوقش: أنه لا يلزم من عدم التعرض لتحريم التفصيل الحكم بتحريمه، وتعين اتحاد الحكم في المسألتين[14].

الدليل الثاني: أن في هذه التفرقة إحداثًا لقولٍ ثالثٍ لم يقل به أحد، وخرمًا للإجماع.

ونوقش من وجهين:

الأول: أن المجتهد الآخذ بالتلفيق لم يخرم الإجماع؛ لأنه وافق في كل واحدةٍ من المسألتين فريقًا من أهل العلم[15].

والثاني: أن الممتنع إنما هو تخطئة كل الأمّة فيما اتفقت عليه، أما ما لم تتفق عليه؛ بأن تخطئ فرقة في مسألة، وأخرى في غيرها، فلا يمتنع[16].

القول الثالث: التفصيل؛ فإن صرحوا بتسوية الحكم بين المسألتين لم يجز التفريق، وإلا جاز[17].

واستدلوا: أنهم إن صرحوا بالتسوية كانت التفرقة إحداثًا لقولٍ ثالث، وهو بمنـزلة مخالفة القول الواحد المجمع عليه[18].

ونوقش:أن الإجماع منهم لم يحصل على حكمٍ واحد؛ فهو كالاختلاف[19].

ويمكن أن يجاب: أنهم أجمعوا على التسوية بين المسألتين، وهذا حكمٌ شرعي.

القول الرابع: التفصيل؛ فإن صرحوا بتسوية الحكم بين المسألتين لم يجز التفريق، وكذلك إن كان مسلك المسألتين واحدًا، وإلا جاز[20].

واستدلوا – إضافة لما سبق-: أنه إن ظهر أنّ مسلك المسألتين واحد؛ فالتفريق بينهما في الحكم خلاف اتفاقهم على أنهما سواء؛ كمن قال: لا ترث العمّة والخالة، ومن قال: ترثان، فلا يجوز التفرقة بينهما في الحكم؛ لأن الكل متفق أنهما سواء في الإرث أو عدمه؛ بجامع المحرمية والقرابة[21].

سبب الخلاف في المسألة:

هل إحداث الفصل بين المسألتين كإحداث قولٍ ثالثٍ فيهما، أو ليس كذلك؟.

وهل يلزم من هذا الفصل نسبة الخطأ إلى جميع الأمة؛ فيكون خرقًا للإجماع، أو لا؟[22].

القول المختـار:

القول الرابع هو الأقوى اعتبارًا لأمور:

1- أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم اجتهدوا في المسائل بحسب الأدلة، ولم يلزموا أحدًا بالتزام مذهبٍ معين.

2- أن الذي عليه المحققون، وقوي دليله جواز إحداث قول ثالثٍ في مسألةٍ، لا يخرج عن القولين السابقين، ومن باب أولى جواز اختيار قول لهؤلاء في مسألة، ولأولئك في أخرى[23].

3- أن هذا المسلك يضبط الاجتهادات أن لا تخرج عن الإجماعات المنقولة، والمسالك المعتبرة عند أهل العلم، دون أن يضيق دائرة الاجتهاد.

 

واعتبار اختيار هذا القول مقيدٌ بأمرين[24]:

أولها: أنه خاصٌ بمن توفرت فيهم آلة الاجتهاد، والنظر الصحيح[25].

وثانيها: أن يختار القول الذي يعتقد رجحانه؛ لقوة دليله، لا للتشهي، أو تتبع الرخص[26].

 


[1] ينظر: مقاييس اللغة، لابن فارس، (5/ 257).

[2] ينظر: لسان العرب، لابن منظور، (10/ 330)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي، ص (1190).

[3] ينظر: المعجم الوسيط، لإبراهيم مصطفى وآخرون، (2/ 833).

[4] ينظر: عمدة التحقيق في التقـليد والتلفـيق، لمحمد الباني، ص(183)، معجم لغة الفقـهاء، لقلعه جي وقنيبي، ص(124)، التلفيق في الاجتهاد والتقليد، لناصر الميمان، ص(26).

[5] نسبه في المسودة، (1/ 293)، وشرح الكوكب، (2/ 267)، إلى أكثر العلماء، ونسبه في اللمع، ص(94) إلى أبي الطيب الشافعي.

[6] ينظر: عمدة التحقيق، للباني، ص(184).

[7] ينظر: الإبهاج، لعلي السبكي، (2/ 374).

[8] ينظر: المسودة، لآل تيمية، ص(294).

[9] ينظر: الإبهاج، لعلي السبكي، (2/ 373).

[10] ينظر: روضة الناظر، لابن قدامة، ص(150).

[11] ينظر: التلخيص، للجويني، (3/ 91)، روضة الناظر، لابن قدامة، ص(149).

[12] ينظر: قواطع الأدلة، للسمعاني، (1/ 488)، التبصرة، للشيرازي، ص(388).

[13] نسبه الآمدي إلى الأكثر، ينظر: التحبير شرح التحرير، للمرداوي، (4/ 1644)، وذلك أنه لم يفرق بين هذه المسألة، ومسألة: إذا اختلفوا على قولين هل يجوز إحداث قول ثالث؛ فجعلهما سواء، ينظر: الإبهاج، لعلي السبكي، (2/ 372).

[14] ينظر: الإبهاج، لعلي السبكي، (2/ 374).

[15] ينظر: اللمع، للشيرازي، ص(94)، الإحكام، للآمدي، (1/ 332).

[16] ينظر: رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، لعبد الوهاب السبكي، (2/ 321).

[17] نسبه أبو الطيب إلى الأكثر، ينظر: المسودة، لآل تيمية، ص(293)، واختاره أبو الخطاب والحلواني، ينظر: شرح الكوكب، للفتوحي، (2/ 268، 269)، والأستاذ أبو منصور، ينظر: البحر المحيط، للزركشي، (3/ 584)، والبرماوي، ينظر: التحرير، للمرداوي، (4/ 1646)، والشيرازي في اللمع، ص(94)، والسمعاني في قواطع الأدلة، (2/ 33)، وابن قدامة في روضة الناظر، ص(150).

[18] ينظر: التبصرة، للشيرازي، ص(390).

[19] ينظر: اللمع، للشيرازي، ص(94)، قواطع الأدلة، للسمعاني، (2/ 33).

[20] اختاره القاضي عبد الوهاب وابن تيمية، ينظر: المسودة، ص(293-294)، والزركشي في البحر المحيط، (3/ 583).

[21] ينظر: البحر المحيط، للزركشي، (3/ 583).

[22] ينظر: المحصول، للرازي، (4/ 128)، البحر المحيط، للزركشي، (3/ 584).

[23] ينظر: الإحكام، للآمدي، (1/ 331)، شرح الكوكب، للفتوحي، (2/ 267)، إرشاد الفحول، للشوكاني، ص(157).

[24] ينظر: قرار مجمع الفقـه الإسلامي بجدة في تعريف التلفـيق في التقـليد وأحكامه، رقم74/ 1/ د8، ضمن مجلة المجمع، الدورة الثامنة، (1/ 640)، الموسوعة الفقهية الكويتية، (13/ 293-294).

[25] ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، ص(125).

[26] ينظر: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 92).

تمت قراءة هذا المقال بالفعل125 مرة!

✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

رييل ستوري | أضرار القات (خطبة)

Next Post

رييل ستوري | خطبة الواجب عند تجدد النعم

Related Posts