من درر العلامة ابن القيم عن الغناء والسماع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالغناء من الموضوعات التي تكلَّم عنها العلَّامة ابن القيم رحمه الله في عدد من كُتُبه، وقد جمعتُ بفضلٍ من الله وكرمه بعضًا مما ذكره.
[كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]
الغناء ينبت النفاق في القلب:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
وهذا كلام عارفٍ بأثر الغناء وثمرته، فإنه ما اعتاده أحد إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، ولو عرف حقيقة النفاق وغايته لأبصره في قلبه، فإنه ما اجتمع في قلب محبة الغناء ومحبة القرآن إلا وطردت إحداهما الأخرى، وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه، وتبرُّمَهم به، وصياحهم بالقارئ إذا طول عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرؤه، فلا تتحرك ولا تطرب ولا يهيج منها بواعث الطلب، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله، كيف تخشع منهم الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئن، ويقع البكاء والوجد، والحركة الظاهرة والباطنة، والسماحة بالأثمان والثياب، وطيبُ السهر وتمنِّي طول الليل!
فإن لم يكن هذا نفاقًا فهو آخِيَّة النفاق وأساسه.
ما ظهرت المعازف في قوم وفَشَتْ فيهم إلا سُلِّط عليهم العدو:
الذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سُلِّط عليهم العدو، وبُلُوا بالقحط والجدب وولاة السوء، والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر، والله المستعان.
[كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
الغناء يُلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبُّره:
اعلم أن للغناء خواصَّ لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء، فمن خواصِّه: أنه يُلهي القلب ويصدُّه عن فهم القرآن وتدبُّره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتِّباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه ويُهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويُحرِّكها إلى كل قبيح.
حكم الغناء عند الأئمة الأربعة:
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه في تحريم السماع:
أما مالك فإنه نهى عن الغناء، وعن استماعه…وسئل عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إنما بفعله عندنا الفساق.
وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب.
وأما الشافعي فقال: إن الغناء لهو مكروه، يُشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه تُرَدُّ شهادتُه.
وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حِلَّه.
وأما مذهب الإمام أحمد، فقال عبدالله ابنه: سألت أبي عن الغناء. فقال: الغناء يُنْبِتُ النفاق في القلب.
سماع الغناء من المرأة الأجنبية:
وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد فمن أعظم المُحرَّمات وأشدها فسادًا.
سماع الغناء من مكايد الشيطان:
من مكايد عدوِّ الله ومصايده التي كاد بها من قَلَّ نصيبُه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المُحرَّمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المُنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسَّنه لها مكرًا منه وغرورًا، وأوحى إليها الشُّبَه الباطلة على حسنه، فقلبت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجورًا. مزامير الشيطان أحبُّ إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوَّلِه إلى آخره لما حرَّك له ساكنًا، ولا أزعج له قاطنًا، ولا أثار فيه وجدًا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندًا، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت.
[كتاب: الكلام على مسألة السماع]
صوت القرآن وصوت الغناء:
صوت القرآن يُسكِّن النفوس ويُطمئنها ويُوقرها، وصوت الغناء يستفزها ويُزعجها ويُهيجها،…فتبارك من جعل كلامه شفاء لصدور المؤمنين، وحياةً لقلوبهم، ونورًا لبصائرهم، وغذاءً لقلوبهم، ودواءً لأسقامهم، وقرةً لعيونهم، وفتح به منهم أعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا…فأشرقت به الوجوه، واستنارت به القلوب.
أدلة تحريم الغناء:
قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [لقمان: 6، 7].
فَسَّر غير واحد من السلف لَهْوَ الحديث بأنه الغناء…فقال أبو الصهباء: سألت عبدالله بن مسعود عن هذه الآية فقال: هو الغناء والاستماع إليه.
وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري في هذه الآية: إنه الغناء.
وقال عكرمة عن ابن عباس في قوله:﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 – 61]: إنَّ السمود هو الغناء، يقال: سمد فلان إذا غَنَّى، وقد فُسِّر السمود باللهو، وفُسِّر بالإعراض، وفُسِّر بالغفلة، وفُسِّر بالأشر والبطر، ولا ينافي تفسيره بالغناء، فإن الغناء ثمرة ذلك كله، فإن الحامل عليه اللهو والغفلة والإعراض والأشر والبطر، وذلك كله منافٍ للعبودية.
قال تعالى: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] قال مجاهد: هو الغناء والمزامير، وقد سَمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوتًا أحمق فاجر)) ولو كان مباحًا لما كان فاجرًا، فروى البخاري في صحيحه من حديث عبدالرحمن بن عوف قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي حِجْرِه إبراهيم، يعني: ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يجود بنفسه، وعيناه تذرفان، فقلت: يا رسول الله، أو تبكي؟ أو لم تنه عن البكاء؟ فقال: ((إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: رنة عند مصيبة، وشق جيب، وخمش وجوه، ورنة شيطان عند نعمة، ولهو ولعب)).
مفاسد السماع:
هذا السماع…كم حصل به من مفسدةٍ…فكم أفسدَ من دين، وأمات من سُنَّة، وأحيا من فجور وبدعة، وكم هُدِمَ به من مرضاة الله ورسوله، وبُني به من مساخطه ومساخط رسوله، ولا إله إلا الله، كم جلب من شرك، وأخفى من توحيد، وكم فيه من فتحٍ لطرق الشيطان، وصدٍّ عن سبيل الله وعن الإيمان، وكم أنبت في القلب من نفاقٍ، وغرَسَ فيه من عداوة لدين الله وشقاق، وكم وقع فيه من رقية للزنا والحرام، وتسهل به من طريق إلى ما كرهه الله من المعاصي والآثام، وكم قرت به للشيطان وحزبه من عيون وتقَرَّحت به لأولياء الله وحزبه من جفون، وكم مالت به الطباعُ إلى ما حَرَّمه الله ورسوله عليها، وكم سكرت به النفوس فعربدت بالمحارم وانقادت قَسْرًا إليها.
هذا ولو لم يكن فيه من المفاسد إلا ثِقَلُ استماع القرآن على قلوب أهله، واستطالته إذا قُرئ بين يدي سماعهم، ومرورهم على آياته صُمًّا وعميانًا، لم يحصل لهم منه ذوق ولا وجد ولا حلاوة، بل ولا يصغي أكثر الحاضرين أو كثير منهم إليه، ولا يعرفون معانيه، ولا يغضون أصواتهم عند تلاوته. فإذا جاء السماع الشيطاني خشعت منهم الأصوات، وهدأت الحركات، ودارت عليهم كؤوس الطرب والوجد، وحدا حينئذٍ حادي الأرواح إلى محل السرور والأفراح.
ومن مفاسده: أنه يُثقل على القلوب الفكر في معاني القرآن وحقائق الإيمان، فبحسب انصرافه إلى السماع يكون انصرافه عن ذلك، فمستقل ومستكثر.
وكذلك يُثقل على اللسان ذكر الله، وإن خف الذكر على لسانه كان ذكرًا مجردًا عن مواطأة القلب للسان، وهذا أمر يعلمه السماعي الصادق من نفسه، ولا يمكنه جحده بقلبه فما اجتمع السماع والذكر والقرآن في موطن إلا وطرد أحدهما الآخر، فلا يجتمعان إلا حربًا، لا يجتمعان سلمًا قط.
كم أُفسِد بالسماع من قلب، وكم سُلِب من نعمة، وكم جُلِب من نقمة، وكم رُكِب به من فرج حرام، وكم استُحِلَّ به من المحارم والآثام، وكم صَدَّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وكم قطع على السالكين سبيل النجاة، وكم تهافت به فراشُ العقول والأحلام في الجحيم، وكم فاتها به من حظِّها من الله وجنات النعيم؟
ومن مفاسده: أنه يميل بسامعه إلى اللذَّات العاجلة، ويدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات بحسب الإمكان…وبين الغناء وشهوة الجِماع ولذَّته أقرب نسبٍ من جهة أن الغناء لذة الروح، والجماع أكبر لذَّات النفس، فيجتمع داعي اللذَّتينِ على طبع مستعدٍّ ونفس فارغة، فيجد الداعي محلًّا فارغًا لا مدافع له، فيتمكن منه، كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرِف الهوى فصادف قلبًا فارغًا فتمَكَّـنا
وبالجملة فمفاسد هذا السماع في القلوب والنفوس والأديان أكثر من أن يحيط بها العَدُّ، ومن عرف مقاصد الشرع في سدِّ الذرائع المفضية إلى الحرام قطع بتحريم هذا السماع، فإن النظر إلى الأجنبية واستماع صوتها لغير حاجة حرام سدًّا للذريعة.
فتحريم…الآلات المطربة من تمام حكمة الشارع، وكمال شريعته، ونصيحته للأمة، فإنه لو حرَّم ما اشتمل على المفاسد، وما هو وسيلة وذريعة إليه، ولو أباح وسائل المفاسد مع تحريمها لكان تناقُضًا يُنزَّه عنه، ولو أن عاقلًا من العقلاء حرَّم مفسدة وأباح الوسيلة المفضية إليها؛ لعدَّه الناس سفيهًا متلاعبًا.
الداهية الكبرى القول بجواز هذا السماع:
قال غير واحد من السلف: ادَّعى قومٌ محبة الله تعالى، فأنزل الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، فلم يقل: فارقصوا واطربوا على صوت المزامير والشبابات، والألحان المطربات، بالتوقيعات والنغمات، فمن أضلُّ سبيلًا ممن يدَّعي محبة الله ويزعم أنه يتقرَّب إليه بهذا السماع الشيطاني.
فالمصيبة العظمى والداهية الكبرى: نسبة ذلك إلى دين الرسول صلى الله عليه وسلم وشرعه، وأنه أذن في ذلك لأمته، وأباحه لهم وأطلقه، ورفع الحرج عن فاعله، مع اشتماله على هذه المفاسد المضادة لشرعه ودينه، وأظلم من هذه البلية وأشدُّ: اعتقاد أنه قُربة حتى يُتقرب به إلى الله، ودين يُدان الله به، وأن فيه من صلاح القلوب وعمارتها بالأحوال العلية والصفات الزكية ما يجعله أفضل من كثير من النوافل؛ كقيام الليل، وقراءة القرآن، وطلب ما يُقرب إلى الله من العلم النافع والعمل الصالح، وأعظم من هذا كلِّه بليةً ومصيبةً اعتقاد أن تأثُّر القلوب به أسرع وأقوى من تأثُّرها بالقرآن، وأنه قد يكون أنفع للعبد من سماع القرآن، وأن فتحه أعجل وأقوى من فتح القرآن من وجوه متعددة. ولا ريب أن هذا من النفاق الذي أنبته الغناء في القلب، فإنه كما قال ابن مسعود: “الغناء يُنبتُ النفاقَ في القلب كما يُنبت الماءُ البقلَ”، وأي نفاق فوق هذا النفاق؟ ولا ريب أن ارتكاب المُحرَّمات مع العلم بتحريمها أسهلُ وأسلمُ عاقبةً من ارتكابها على هذا الوجه، فإن هذا قلب للدين، ومشاققة لرسول رب العالمين، واتِّباع لغير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
تحذير سائر طوائف أهل العلم من الغناء والسماع:
يتبين لمن له قلب حي وبصيرة منورة بنور الإيمان، أن الغناء والسماع الشيطاني وآلات اللهو إنما نصبها الشيطان مضادةً لأمر الله ومعارضةً لما شرعه لعباده، وجعله سببَ صلاح قلوبهم وأديانهم، واستخفَّ الشيطان وحزبه وحَسَّن لهم ذلك، فأطاعوه، وزيَّنه لهم فاتبعوه، ولما فعلوا ذلك واستجاب لهم من قلَّ نصيبه من العلم والإيمان، صاح بهم جند الله وحزبه من كل قطر وناحية، وحذَّروا منهم، ونهوا عن مشابهتهم والاقتداء بهم من سائر طوائف أهل العلم، فصاح بهم أئمةُ الحديث، وأئمة الفقه، وأئمة التفسير، وأئمة الزهد والسلوك إلى الله، وحذروا منهم كل الحذر.
الغناء من أصوات الشيطان:
قال تعالى للشيطان: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾ [الإسراء: 64] فالصوت الشيطاني يستفز بني آدم، وصوت الشيطان كل صوت في غير طاعة الله، نُسِبَ إلى الشيطان لأمره به ورضاه به، وإلا فليس هو الصوت نفسه، فصوت الغناء وصوت النوح وصوت المعازف…كلها من أصوات الشيطان التي يستفز بها بني آدم فيستخفهم ويُزعجهم؛ ولهذا قال السلف في هذه الآية: “إنه الغناء”.
[كتاب: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح]
الغناء مفتاح الزنا:
جعل الغناء مفتاح الزنا.
[كتاب: تحفة المودود بأحكام المولود]
تربية الصغار على تجنب سماع الغناء:
وكذلك يجب أن يجنب الصبيُّ إذا عقل مجالس اللهو والباطل والغناء.
تمت قراءة هذا المقال بالفعل355 مرة!
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.
ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق