خطا جاسر وسط سوق السمك، وكأنه يجهله، رغم أن أقدامه قد نبتت فيه!!
بدلة لامعة، وساعة مستوردة، وعينان تلمعان كما لو أنهما تقيسان قيمة كل شيء.
منذ غادر السوق، قرر ألا يمدّ يده إلا لاصطياد ما يلمع، لا ما ينبض.
كان سوق الميدان يعجّ بالحياة.
مشترون، رجال ونساء من كافة الطبقات، لا يتوقفون عن الفصال،
وباعة يعلو صراخهم، وأطفال يتقافزون بين طاولات السمك،
ورائحة البحر تختلط بالعرق وبقايا الطحالب اليابسة على الشباك القديمة.
توقف جاسر عند بائع عجوز.
مدّ الرجل إليه سمكة فضية كبيرة، قائلاً بودٍّ مشوب بالخوف:
“دي ليك، يا بيه… السوق كله بيتشرف.”
لم يردّ جاسر، بل أشار إلى شاب يقف بجانبه، قميصه بسيط، وبسمة ودودة تكاد تخفي شيئًا شاحبًا في وجهه.
قال بصوت ناعم كحدّ السكين:
“فاكر صاحبي ده؟
زمان لما كان بييجي لك، كنت بتدّيله الكيلو بنص ثمنه.”
ضحك البائع بتردد:
“الباشمهندس شهاب؟ ده من ريحة الجدعان… ابن بلد.”
مضى الرجلان.
قال جاسر وهو يتأمل السوق:
“حتى الذكريات بتتوزن.”
أجابه شهاب وهو يبتسم:
“بس لسه في حاجات مالهاش ميزان.”
***
في مكتبه الزجاجي الفاخر، كانت سلمى، سكرتيرته، تقف أمامه.
الضوء يمر من قميصها الأبيض كما تمر الريح بين الشباك المفتوحة.
قال جاسر وهو يحدّق دون خجل:
“فاضية الليلة؟”
ابتسمت بانحناءة خفيفة.
سحبها، أجلسها على ركبتيه.
ضحكت بخفّة،
همس: “مافيش حد شبهك في المتعة.”
همست بدلال:
“حتى عبير؟!”
قال جاسر:
. عبير طيبة بزيادة… مش شقية زيك
على حين غرّة،
دفع شهاب باب المكتب وبُغت بالمشهد.
نهضت سلمى بسرعة، وضحك جاسر بوقاحة.
اعتذر شهاب على اقتحامه، وقال:
“عفوًا… الباب الخارجي كان مفتوحًا ومافيش حد بره.”
صمت قليلاً، ثم أردف، وصوته يحمل شيئًا غائبًا:
“عبير… فاكرها؟”
تظاهر جاسر بالدهشة، وتساءل في أعماقه: هل سمع شهاب حديثه مع سلمى؟!
اضطرب قليلاً، ثم قال ببرود:
“أنهي عبير؟”
قال شهاب بانفعال حاول ألا يُظهره:
” اللي اختفت فجأة… من غير وداع.”
أدرك جاسر أنه لا جدوى من المراوغة ، همس:
آه… عبير.
قالها جاسر وهو ينظر إلى سلمى، ثم أردف:
اتقابلنا صدفة… جواز مدني سريع.
بدا شهاب وكأنه يعلم الإجابة، قال في هدوءٍ مبالغ فيه:
“بس ما قلتليش.”
جاسر بوقاحة:
“كنت هطلب إذنك؟”
شهاب لم يرد… صمت…
كمن يُغلق بابًا لا يعرف متى سيعاد فتحه.
وكان صمته كجنازةٍ لشيء يُدفن، لكنه لم يمت بعد.
***
جلس شهاب على مقعد خشبي مهترئ أمام البحر ،
كان الليل ينسدل ثقيلًا، والرياح تعصف كأنها تواسي قلبه المجروح.
نظر إلى البحر، وكأنه المرآة الوحيدة التي ما زالت تعكس صدقه، ثم همس لنفسه بصوت متهدّج:
جاسر صديق العمر…
عنده كل حاجة …
مال، زوجة، صبيان وبنات ، شركة كبيرة ، سكرتيرة فاتنة ، ومع ذلك طمع في الحاجة الوحيدة اللي كنت فاكر نفسي طلعت بيها من الدنيا … عبير .”
رمى شهاب حجراً صغيراً في الماء ، فتكسرت الموجة كما تكسر قلبه حين علم بزواجها العرفي من جاسر.
تمتم:
من وإحنا صغيرين ، كنت أنا اللي بشيله وقت ما كان يقع أو تحصله أي مشكلة… في الشارع، في المدرسة، في الجامعة.
اعتبرته أخي الذي لم تلده أمي ، وقلت: مش ممكن يطعنني.
لكن الحقيقة هو بيشوف الدنيا مزاد كبير وكل حاجة قابلة للبيع: الحب، الصداقة، حتى الضمير.
أطرق شهاب رأسه، وارتجف صوته:
“هو بيمتلك كل شيء، و أنا كان عندي حاجة واحدة… حاجة واحدة بس، حتى دي طمع فيها.
أخذ شهاب نفسًا عميقًا، كأنما يحاول أن يبتلع خيبته، ثم أردف:
“جاسر مش بيحب، جاسر بيشتري.
بيشتري الضحكة، والدمعة، والقلب اللي بينبض.
وأنا… أنا كنت مغفل كبير لما صدّقت إنه ممكن يكون إنسان… أخ، وصديق حقيقي.
نهض شهاب ببطء، وترك المقعد،كانت خطاه متثاقلة، قال في سره:
كان لازم أفهم إن إللي بيسعى عشان يمتلك كل شيء، مش هيتردد أبدا في سرقة حتى الفتات إللي باقي للآخرين…
صرخ شهاب صرخ مدوية:
من اليوم لازم كل حاجة تتغير.
***
سنوات مرّت.
وتبدلت الأحوال.
فقد جاسر بريقه.
شركته كانت تتهاوى، والأرقام تخونه.
أما شهاب، فافتتح مطعمًا صغيرًا للسمك مستغلًا علاقته الحسنة بتجار وصيادي السمك الذين نشأ بينهم ، وسرعان ما كبر المطعم، ثم أصبح في عدة سنوات يمتلك سلسلة مطاعم سمك حملت اسمه.
***
ذات مساء، طلب جاسر مقابلة شهاب.
وكان شهاب يعلم كل شيء عن جاسر، فهو رغم بعده عنه، إلا أنه كان يتابع كل أخباره، وأحواله التي لم تكن على ما يرام.
دعا شهاب جاسر إلى مكتبه.
فتحت سلمى الباب لجاسر، الذي دهش لوجودها في مكتب شهاب.
قال جاسر بصوت مكسور:
“محتاج مليون جنيه … خلال أسبوع.”
كتب شهاب الشيك، ودفعه نحوه.
قال جاسر في فرح : فعلا إنت صديق حقيقي.
وقبل أن يمد يده، قال شهاب بهدوء:
“فيه شرط.”
“إيه؟!”
“عبير… عايزها. ليلة.
جاسر في دهشة : إنت بتقول إيه؟!
شهاب مكملا في هدوء مريب :
من غير جواز.
شهق جاسر، ثم ضحك ضحكة جريحة:
“إنت اتجننت؟!”
شهاب في حدة :
“إنت مش كنت دايمًا تقول إن كل شيء له تمن؟
جاسر في عصبية :
عبير مش سكرتيرة هتسرقها مني زي ما سرقت سلمى… عبير مراتي.”
شهاب :
“خلاص، براحتك.”
صمت جاسر لبرهة، ازدرَد لعابه الجاف في حلقه، تطلع قليلاً في وجه شهاب،
ثم مدّ يده المرتعشة، وسحب الشيك.
***
في المساء، كانت عبير تجلس أمام شهاب.
الضوء الخافت يلقي بظلال مرتعشة على وجهها، فتبدو أقرب إلى طيفٍ قديمٍ خرج من الذاكرة.
قالت بصوت خافت، فيه رجفة دفينة:
“يعني… دفعت مليون جنيه علشاني؟”
اقترب منها شهاب خطوة، وعيناه لا تفارقان ملامحها التي يعرفها كما يعرف كفّ يده.
أجاب بصوت مبحوح:
“مش ده ثمنك؟… يمكن يكون قليل؟”
همست، وهي ترفع رأسها قليلًا لتقابله:
“مش كنت بتحبني؟”
تنفّس بعمق، كأنه يشمّ عطرها القديم الذي لا يزال عالقًا بروحه.
قال وهو يحدق في عينيها:
“كنت…… بس الحب لو اتكسر، بيبقى حاد، زي الزجاج.”
اقتربت منه أكثر، حتى كادت تلامسه.
عيناها تائهتان في وجهه، وشفاهها ترتجف كأنها على وشك البوح أو القبلة.
قالت:
“أنا… ما نسيتش.”
مدّ يده، رفع خصلة من شعرها، ثم تراجع فجأة، كمن لدغته الذكرى.
“كنتي بتبكي في حضني، وبعدها رحتي له…
قوليلي، كنتي بتحبيني؟ ولا كنتي بتدوري على اللي يشتري أكتر؟”
لم تُجبه.
لكن يدها لامست ذراعه،
ونفسها الساخن اقترب من عنقه،
كأن بينهما نارًا قديمة ما زالت تحت الرماد.
همس وهو يتراجع خطوة أخيرة:
“أنا عندي مطاعم سمك فخمة… بس نفسي لسه بتروح على سمك السوق الرخيص.
تجمّدت، وبدا أن الدموع على وشك أن تفلت.
قال ، وهو يشيح بوجهه عنها:
“…إنت مجرد ذكري
ذكرى كان ممكن أعيش بيها، لو ما اتلوثتش.”
خرجت عبير لا تحمل سوى عبقٍ قديم، ووجعٍ لم تعرف إن كان شفاءه في البكاء… أم في النسيان
***
في الصباح، عاد جاسر لبيته، فلم يجدها.
صرخ، جُنّ، مزّق الستائر.
وحين واجهها بعد أيام، صاح:
“بعتيني؟!”
قالت بهدوء حزين:
“إنت اللي بعتني… لما بعت نفسك، وبعتني معاك.”
صفعها.
طلّقها.
لم يحتمل أن يرى صورته في عينيها.
ولم يصدق أن شهاب لم يمسّها.
كيف يصدق أن شهاب أعطاه شيكًا بمليون جنيه بدون أن يقبض الثمن؟
***
في يوم ماطر، عاد شهاب إلى سوق الميدان بمنطقة بحرى
منطقته القديمة…
اشترى كيلو سردين.
سأله البائع العجوز وهو يضحك:
“لسه بتاكل سردين مشوي يا باشمهندس؟”
رفض العجوز أن يتقاضي ثمن السردين
ضحك شهاب، وهو يمرر يده على السردين المشوي
رفع عينيه نحو السماء،
وتنفس رائحة السمك ،والبحر، والملح، والذكريات.
#شريف #محيي #الدين #إبراهيم #تسعيرة #السمك..
تمت قراءة هذا المقال بالفعل18105 مرة!
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.
ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق