رييل ستوري | تفقهوا قبل أن تصوموا (خطبة)
تَفقَّهُوا قبل أن تَصُومُوا
الحمد لله الذي أكرمنا بنزول القرآن، ومَنَّ علينا بقدوم شهر رمضان، والصلاة والسلام على سيد الأنام، خيرِ مَنْ صَلَّى وصام، وتهجَّد وقام، نبينا محمد، الذي علَّمنا الآداب والأحكام، وجميعَ شرائع الإسلام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الكرام، أما بعد:
أيها المسلمون، اعلموا- رحمكم الله- أن ربنا عليم بخلقه، حكيم في شرعه؛ فقد شرع لعباده تشريعات، وفرض عليهم تكليفات، فيها مصالح لهم ومنافع، تعود عليهم في الدنيا بالخير الكثير، وفي الآخرة بالأجر الكبير؛ فمن ذلك: إيجاب صيام شهر رمضان، قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
ولما كان صيام رمضان من واجبات الدين؛ بل من أركان الإسلام المعلومة بين المسلمين؛ كان تعَلُّم أحكامه، والفقه بما لا يصح إلا به، من العلوم الواجبة على المكلفين؛ فقد سئل ابن المبارك رحمه الله: “مَا الَّذِي لَا يَسَعُ الْمُؤْمِنَ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ إِلَّا أَنْ يَطْلُبَهُ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ؟ فقَالَ: لَا يَسَعُهُ أَنْ يقْدمَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِعِلْمٍ، وَلَا يَسَعُهُ حَتَّى يَسْأَلَ”، قال ابن عبدالبر- معقِّبًا على هذا-: “وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمِيعَ فَرْضُهُ مِنْ ذَلِكَ: مَا لَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ جَهْلُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرَائِضِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ”[1].
وقال البغوي: “وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، فعليه معرفة علمها؛ مثل علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه” [2].
ومصداق كلام هؤلاء العلماء: قول النبي عليه الصلاة والسلام: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”[3].
لهذا كان علينا- عباد الله- أن نحرص حرصًا كبيرًا على معرفة أحكام الصيام؛ حتى نعبد الله على بصيرة، ونسارع إلى الفضائل لننال الأجور الكثيرة، وتسلم عبادتنا مما يخدشها، أو يقلِّل حُسْن أثرها.
وإنه لمن التقصير الكبير: الجهل بالدِّين وترك السؤال عنه، مع العلم بالدنيا وشدة الحرص على معرفة شؤونها، فيكون المرء في هذه الحال كما قيل:
حذِقٌ بكلِّ مصيبةٍ في عيشِهِ
وإذا أُصيبَ بدِينِهِ لم يشعُرِ
|
أيها المؤمنون، يجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر صحيح سالم مما يمنع صحة الصيام.
فمن ترك صيام رمضان ممن توفرت فيه هذه الشروط من غير عذر شرعي؛ فقد ارتكب إثمًا عظيمًا، وإذا زاد على فطره مجاهرتَه به تضاعف إثمه، وعظُم جُرْمُه.
فمن وقع في هذه الخطيئة الشنيعة فعليه أن يتوب إلى بارئه، ويقضي أيام فطره؛ فإن الله يقبل توبة التائبين الصادقين.
وعلى هذا فمن أدركه رمضان وهو بالغ وجب عليه الصيام.
واعتذارُ بعض الآباء والأمهات على ترك صيام بناتهم اللاتي بلغن بنزول الطمث منهن؛ بكونهن صغيرات على تحمل الصيام؛ اعتذارٌ غير صحيح.
لهذا علينا- معشر المسلمين- أن نعلم أبناءنا وبناتنا الصيام منذ الصغر؛ حتى يعتادوه عند البلوغ والكبر، وهكذا كان يصنع الصحابة رضي الله عنهم مع أولادهم.
ومن بلغ من الأطفال من الأبناء والبنات أثناء شهر رمضان بعلامة من علامات البلوغ فليس عليه قضاء ما فاته من الأيام قبل بلوغه، ولكن عليه أن يبدأ بالصيام من اليوم الثاني لبلوغه حتى نهاية رمضان.
وكما لا يجب الصيام على من لم يبلغ لم يجب أيضًا على من لم يعقل؛ فمن كان مجنونًا فلا يجب عليه صيام رمضان؛ لأن العقل هو سبب التكليف الإنساني، فمتى فُقِد ذهب معه التكليف.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: “رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَن الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ”[4].
ومن ذهب عقله بسبب خَرَف وكِبَر، أو حادث تعرض له، أو مرض ألمَّ فلم يعد يضبط الأمور كالعقلاء؛ فقد سقط عنه التكليف، وليس على ذويه فدية ولا قضاء على فطره.
ومن ذهب عقله جميعَ نهار رمضان بتخدير طبي أو إغماء بسبب مرض أو حادث؛ فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم، فإن أفاق في بعض النهار صحَّ صومُه إن كان قد نوى من الليل صوم ذلك اليوم.
أيها الأحِبَّة الكرام، ويشترط لوجوب صيام رمضان كذلك: القدرة على الصيام.
فمن كان مريضًا مرضًا يعجز بسببه عن الصيام، أو يسبب له الصوم مشقة كبيرة، أو ألمًا شديدًا وزيادة مرض؛ فإنه يُفطِر ويقضي.
وأما إذا كان المرض لا يسبب مشقة كبيرة، بل مشقةً يمكن احتمالها ولا تزيد من مرضه؛ فإنه يجب عليه الصيام؛ لأن الصوم في حقيقته فيه مشقة لكنها مشقة محتملة.
ومن كان في أرض شديدة الحرارة يشق عليه جدًّا الصيام فيها؛ كأن يخشى الهلاك أو شدة مرض لو صام في ذلك الجو الشديد في حرارته؛ فإنه كالمرض؛ فيفطر ويقضي، لكنه إن أمكنه الصيام مع وجود مَشقَّة محتملة، أو أمكنه إيجاد وسائل تبريد، أو الانتقال إلى مكان أخف حرارة؛ فإن الصيام يجب عليه.
وليست الأعمال الشاقة عذرًا في ترك صيام رمضان، كما يفتي لنفسه بعض من كان كذلك؛ فصيام رمضان حق الله في العام مرة واحدة، ويمكن للعامل أخذ إجازة شهر رمضان، أو العمل في الليل، أو الاتفاق مع صاحب العمل على تخفيف ساعات الشغل نهارًا.
وإذا كان المرض الشديد عذرًا؛ فإن السفر إلى مسافة القصر عذر أيضًا، فمن كان مسافرًا في رمضان، جاز له الفطر في أرض سفره، أو في طريقه إليها ما دام أنه باقٍ على حكم السفر.
ويبدأ المسافر بالفطر إذا شاء عندما يغادر جميع بيوت قريته أو حارته، ولا يصح له أن يفطر وهو ما زال في منطقته.
وإذا رجع من سفره في نهار رمضان وقد أفطر أول يومه فلا يلزمه الإمساك بقية ذلك اليوم؛ ولكن لا يظهر إفطاره للناس.
وإذا صام في السفر ولا سيما إذا لم يجد مشقة في سفره صح منه ذلك.
وتأملوا- معشر الكرام- في هذين العذرين- المرض والسفر- لتروا رحمة الله بعباده، وتيسيره لهم فيهما؛ فالسفر قطعة من العذاب، والمرض فيه ما فيه من الضعف والأوجاع؛ فاقتضت رحمة الرحيم الحكيم أن يخفف عن عباده إيجاب الصيام في حالَي السفر والمرض، فالحمد لله على رحمته.
غير أننا- أيها الفضلاء- إذا أفطرنا بسبب مرض أو سفر فإنه يجب علينا قضاء ما أفطرنا بعد انقضاء رمضان، والأحسن المبادرة إلى سرعة القضاء لتلك الأيام متتابعةً أو مفرَّقة.
وفي هذين العذرين يقول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
لكن بعض الناس قد يسأل ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: ماذا يصنع أصحاب الأمراض المزمنة أو التي لا يُرجى شفاؤها؟
السؤال الثاني: ما مقدار الفدية التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ﴾ [البقرة: 184].
السؤال الثالث: ما الواجب على من مات قبل أن يقضي ما أفطره من رمضان؟
فالجواب عن السؤال الأول: أن الأمراض نوعان:
النوع الأول: المرض الذي يُرجى شفاؤه وأفطر صاحبه بسببه في رمضان، فهذا عليه القضاء بعد رمضان متى ما شُفي.
ويدخل في هذا النوع: الحامل والمرضع؛ فالحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفًا على أنفسهما فحسب فعليهما القضاء فقط؛ لأن عذرهما كالمرض، وإن أفطرتا خوفًا على ولديهما فقط، أو خوفًا على أنفسهما وولديهما معًا؛ فعليهما القضاء والفدية، ومن العلماء من رأى أن عليهما القضاء فقط في جميع هذه الصور.
والنوع الثاني: المرض الدائم، والمرض الذي لا يُرجى الشفاء منه، فمن كان فيه ذلك وشق عليه الصيام فيفطر وعليه الفدية فقط.
والجواب عن السؤال الثاني عن مقدار الفدية التي يدفعها من تجب عليه بسبب فطره، فنقول: لها مقداران:
المقدار الأول: وهو الأحسن والأكمل والأحوط: أن تُصنع وجبةٌ مشبعةٌ عن كل يوم أفطر فيه المريض لتكون لمسكين، فيطعمه إياها في البيت، أو المطعم، أو يعطاها إلى يده جاهزة. وسواء جُمع المساكينُ لإطعامهم في يوم واحد أو فُرِّقوا، وسواء كان ذلك في رمضان أم بعده.
وهذا المقدار هو الذي عمله أنس رضي الله عنه؛ فعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: “ضَعُفَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ الصَّوْمِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَامًا، فَأَفْطَرَ، فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ، وَدَعَا ثَلاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ”[5].
المقدار الثاني: أن يُخرج عن كل يوم أفطر فيه كيلو طعام إلا ربعًا من قوت بلده؛ ومن ذلك: الأرز، والطحين، والدقيق، وغير ذلك.
وتقدر فدية الثلاثين يومًا باثنين وعشرين كيلو ونصف الكيلو من الطعام.
وأما إجابة السؤال الثالث وهو: ما الواجب على من مات قبل أن يقضي ما أفطره من رمضان؟
فنقول: إن المرض إذا استمر بالمريض من رمضان إلى ما بعده ومات قبل أن يجد فرصة للقضاء؛ فهذا لا إثم عليه، ولا فدية، ولا قضاء عنه من أوليائه.
وأما إذا مرض في رمضان ثم شفي بعده وقدر على الصيام، ولكنه لم يفعل، ثم مات ولم يقضِ؛ فهذا يقضي عنه أولياؤه ما أفطره من أيام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: “مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ”[6].
عباد الله، ومن شروط صحة صيام رمضان: تبييت النية له من الليل، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: “مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فلَا صِيَامَ لَهُ”[7]، وفي رواية: “مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يَصُومُ”[8]، وفي رواية: “لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنْ اللَّيْلِ”[9].
لهذا يجب على كل مكلف بصيام رمضان أن ينوي الصيام له من الليل، وعزْمُه على السحور، أو استيقاظه له يعدُّ نية؛ بل ورود نية صومه على خاطره كذلك نية؛ قال بعض أهل العلم: “وَمَنْ خَطَرَ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا فَقَدْ نَوَى”[10].
وكما يجب صيام رمضان برؤية هلاله أو إخبار العدل بذلك، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، كما ورد في الأحاديث؛ فإن من نام وأصبح على أول يوم من رمضان ولم يكن نوى صيامه ظانًّا أنه من شعبان؛ فإنه يجب عليه أن يمسك ذلك اليوم ويقضي مكانه يومًا بعد رمضان، أما إذا تأخَّر إخباره بكون غدٍ من رمضان أو لا، لكنه عقد في نفسه بأنه إن كان من رمضان فإنه سيصومه صَحَّ منه ولا قضاء عليه.
ومن شروط صحة الصيام: سلامة المرأة من دمي الحيض والنفاس.
أما دم الاستحاضة المسمى بالنزيف فيجب على المرأة الصيام معه إن قدرت.
ويجوز للمرأة استعمال الأدوية التي تؤخر دورتها إلى ما بعد رمضان، إذا لم يكن عليها بذلك ضرر؛ فقد وردت إباحة التأخير بالدواء عن ابن عمر رضي الله عنهما، وعن غيره.
إخوة الإسلام، إن صيام رمضان عبادة يجب أداؤها على الكيفية المشروعة، وتجنب ما يبطلها؛ فقد نَبَّه الشرع على أمور إذا ارتكب الصائم واحدًا منها بطل صومه.
فمن ذلك: الأكل والشرب:
فمن أكل أو شرب أثناء صيامه- ذاكرًا مختارًا عالمًا بأنه مفطر- فقد بطل صومه ذلك اليوم، سواء كان الطعام أو الشراب قليلًا أم كثيرًا.
ويدخل في الأكل والشرب: ما كان في معناهما؛ كالحقن المُغذِّية.
وسواء كان الطعام والشراب نافعين أم ضارَّيْن، فمن مضغ علكًا وبلع ماءه، أو شرب سيجارة أو شيشة أو شَمَّةً بطل صومه.
وأما إذا أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه وليس عليه شيء، كما جاء في الحديث، ومن رآه يفطر ناسيًا فعليه تنبيهه بكونه صائمًا.
وفي هذا المبطل للصيام أمور ينبغي أن ينتبه لها:
أولًا: على الصائم أن يتمضمض، أو يستعمل السواك، أو الفرشاة والمعجون بعد انتهائه من السحور؛ حتى لا تبقى في فمه بقايا طعام؛ لأن من بلع في نهار صومه ما تبقى في فمه من الطعام عامدًا فقد أفطر، أما إذا كان بغير تعَمُّد فلا يفطر.
ثانيًا: إذا أذن المؤذن الحريص على ضبط الوقت والمتسحر يأكل أو يشرب وجب على المتسحر أن يكف عن ذلك، ويخرج ما في فمه، ويطرح ما في يده، فإذا بلع ما في فمه، أو أدخل إليه ما في يده قصدًا وبلعه بعد سماع المؤذن فعليه قضاء ذلك اليوم.
ثالثًا: شم دخان الحرائق وغربلة الدقيق والغبار وعوادم السيارات والعطر والبخور؛ لا يفطِّر الصائم، وابتلاعُ اللعاب لا يُفطِّر، وابتلاع النخامة من غير قصد ابتلاعها أو لصعوبة إخراجها لا يفطر كذلك، واستعمالُ معجون الأسنان نهارًا لا يفطر إذا لم يتعمد بلع مائه، والأحوط استعماله في الليل دون النهار، والمضمضةُ والاستنشاقُ من غير مبالغة لا تُفطِّران، والسباحة والاغتسال، وتذوقُ الطعام لمعرفة صلاحه، وترطيب الأم لوليدها الطعام في فمها لا يُفطِّر إذا لم يحصل تعمد في إيصال ما بقي في الفم إلى الجوف.
رابعًا: من استمر في سحوره ظانًّا بقاء الليل، فتبيَّن له أنه قد أُذِّن للفجر صحَّ صومه؛ فالأصل بقاء الليل، ومن أفطر ظانًّا غروب الشمس، فاتضح له أنها لم تغرب فعليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، ومن العلماء من صحح صومهما جميعًا؛ لأن الخطأ عذر في الشرع.
خامسًا: من كان على طائرة ولم يزل يرى الشمس فإنه ينتظر حتى يتحقق غروبها، ولا يفطر حسب الساعة على ما تعود في الأرض، إلا إذا حال بينه وبين الشمس غيم فيفطر حسب وقت البلدة التي هو فوقها على الطائرة، ومن أفطر في الأرض ثم صعد الطائرة فرأى الشمس فلا قضاء عليه.
سادسًا: من سافر من بلد تقدمت رؤية هلال رمضان فيه إلى بلد آخر تأخرت فيه الرؤية؛ فلا يفطر قبل فطرهم؛ بل يفطر معهم ولو زاد يومًا.
وإن حصل العكس فإنه يفطر معهم، ويقضي يومًا إن بلغ مقدار صيامه كله ثمانية وعشرين يومًا.
أيها الأحباب الفضلاء، ومن مبطلات الصيام: الجِماع نهار رمضان لمن يجب عليه صيامه. وهذا المبطل هو أعظم المبطلات وأكثرها تبعة؛ فمن أفطر بالجِماع وجبت عليه التوبة إلى الله، وإمساك بقية اليوم، وقضاء ما أفطر، وأن يُكَفِّر بصيام شهرين متتابعين، فإن عجز عجزًا حقيقيًّا عن ذلك أطعم ستين مسكينًا.
ومن جامع أكثر من يوم في نهار رمضان فعليه كَفَّارات بعدد تلك الأيام.
ومن قدم من سفره في نهار الصيام وقد أفطر أول ذلك اليوم، فلا يجوز له جِماع زوجته الصائمة.
وهناك من الناس من يتزوَّجون في رمضان؛ فمن كان منهم قادرًا على كَفِّ نفسه في نهار الصيام فلا حرج، وإن كان يضعف عن ذلك فالنصيحة له أن يتزوَّج بعد رمضان، وهناك فتاوى شيطانية لدى بعض العوامِّ بأن للمتزوج حديثًا فِطْرَ ثلاثةِ أيام، وهذا من الضلال المبين.
واعلموا- معشر المسلمين- أن تقبيل الزوجة لمن أمن على نفسه المحظور جائز، وأما من لم يأمن فلا يجوز، وأما مداعبتها ومباشرتها من غير إنزال، ولا خوف من الوقوع في المعاشرة فهي من الرفث الذي ينبغي تركه؛ ولكن من فعل ذلك ولم يصل إلى ما بعده فلا حرج عليه.
ومما يعفى عنه: الاحتلام في النوم مع نزول المني فيه، وخروجُ المذي والوَدْي، فهذان غير مُفْطِرين، أما خروج المني بجِماع أو استمناء أو مباشرة أو تذكُّر أو إدمان نظر؛ فكل هذا مُفطِر.
ومن أصبح جُنُبًا عن معاشرة أو احتلام فأذَّن الفجر ولم يتمَكَّن من الاغتسال فعليه أن يصوم، ولو اغتسل بعد الفجر، فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام جواز ذلك؛ إذ ليس من شرط صحة الصيام الطهارة من الحدث الأكبر، ومثل هذا: المرأة التي طهرت من حيضها أو نفاسها، ولم تقدر على الاغتسال إلا بعد الفجر، فحكمها حكمه.
ومن مبطلات الصيام: تعَمُّد القيء، أما إذا خرج من غير تعَمُّد فإنه لا يفطر، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاء” [11].
فإذا علمتم هذا- عباد الله- فاعلموا أيضًا أن من ارتكب مبطلًا من هذه المبطلات جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا أو مخطئًا؛ فإنه لا يفطر بذلك؛ لأن هذه أعذار شرعية، وردت في القرآن والسنة النبوية.
نسأل الله أن يُفقِّهنا في الدين، ويُبَلِّغنا رضوان ربِّ العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المسلمون، لا يبقى الإنسان في هذه الدنيا سالمًا من الأمراض، ولا بعيدًا عن لحوق الضعف به، ووصول العجز إليه؛ فلهذا قد يوجد بعض الناس بحاجة إلى استعمال أدوية في نهار رمضان.
ولما كان دين الله تعالى مبنيًّا على رفع الحرج، وكان صيام رمضان قائمًا على التيسير وعدم التعسير؛ فقد رُخِّص للمريض تناول بعض الأدوية ولا تعد عليه من المفطرات، قال الله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].
فيجوز للصائم عمل التحاليل المخبرية الدموية، والحقن غير المغذية العضلية والوريدية، وحقن الأنسولين لمرضى السُّكَّري، وقلع الضرس، وحشوات الأسنان وتنظيفها، لكن على المريض لفظ الدم، وإخراج ما وضع في فمه أثناء علاج أسنانه، فإن ولج إلى جوفه بغير تعَمُّد فلا شيء عليه، ويجوز وضع المراهم والدهون واللواصق الطبية على الجلد، واستعمال المرهم والبخاخ لعلاج الفطريات في الفم.
وهناك مسائل طبية حصل فيها خلاف بين الفقهاء؛ في كونها مفطِّرة أو غير مفطرة، فذهب بعض علمائنا إلى كونها غير مفطرة؛ لعدم الدليل الصحيح، أو الصريح، الدال على كونها مفطرة، فالأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي الدليل الناقل لها عن هذا الأصل.
فمن تلك المسائل التي لا يفطر بها الصائم- على القول الراجح-: القطرة في العين، أو الأُذُن، أو الأنف، والحقن الشرجية والتحاميل المهبلية، ودخولُ إصبع الفحص الطبي، وبخاخُ الربو، ومنظارُ المعدة، ومنظار المثانة، ومنظار الرحم، والقسطرة البولية، والأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، والأكسجين الصناعي، وكذلك استعمال الحجامة في حق من لا تؤثر عليه، ومثلها التبرُّع بالدم.
غير أن الأحوط- يا عباد الله- تأجيل هذه الأمور لمن يستعملها إلى ما بعد الإفطار؛ خروجًا من الخلاف، وطمأنينةً للنفس، إلا من كان مضطرًّا لذلك نهارًا.
أيها الإخوة الكرام، رمضان شهر المسابقة إلى الخيرات، والمنافسة على الطاعات؛ لهذا يستحب للصائم تعجيل الفطر عند تحقق الغروب، والحرص على السحور المتأخر ولو قطرات ماء لمن لا يجد الطعام أو لم يرغب فيه، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: “لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ”[12].
وقال: “السُّحُورُ أَكْلَةٌ بَرَكَةٌ، فَلَا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ”[13].
واحرصوا- رحمكم الله- على التسوُّك جميع نهار رمضان قبل الزوال وبعد الزوال، وإذا كان السواك رطبًا فلا تبلعوا ماءه، ومن بلعه بغير قصد فلا حرج عليه، وأكثروا من تلاوة القرآن وتدبره، ومن انتقض وضوؤه وأراد الاستمرار في القراءة، فالأحسن أن يجدِّد وضوءه، فإن قرأ بغير وضوء جاز له ذلك، وللمرأة الحائض أن تسمع القرآن، وجوَّز لها بعض الفقهاء قراءته من الجوال، وواظِبوا على صلاة التراويح في المساجد؛ فإنها من خير الأعمال، ومن استطاع أن يعتكف العشر، أو يعتمر، أو يفطِّر صائمين من ماله، فهذه أعمالُ بِرٍّ فاضلة، وقربات صالحة كثيرة الأجور.
نسأل الله أن يرزقنا صومًا مقبولًا، وأجرًا مذخورًا.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير.
[1] جامع بيان العلم وفضله (1/ 56).
[2] شرح السنة (1/290).
[3] رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان، والطبراني، وأبو يعلى والبزار، وهو صحيح.
[4] رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو صحيح.
[5] رواه الدارقطني والبيهقي، وهو صحيح.
[7] رواه النسائي وابن ماجه والبيهقي، وهو صحيح.
[8] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وهو صحيح.
[9] رواه ابن أبي شيبة وابن ماجه والدارقطني، وهو صحيح.
[10] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 375).
[11] رواه ابن أبي شيبة، وابن ماجه، والبيهقي وغيرهم، وهو صحيح.
[13] رواه أحمد وابن حبان والطبراني، وهو صحيح.
تمت قراءة هذا المقال بالفعل73 مرة!
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.
ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق