تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين
تفسير سورة يونس (الحلقة العاشرة)
موسى: نبيٌّ يقود وفتيةٌ يُؤسِّسون
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.
قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 76 – 89].
النفس البشرية واحدة فيما خلقها الله تعالى عليه من الفطرة، وما ألهمها من معرفة الخير والشر والتمييز بينهما؛ وقد قال عز وجل: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 – 10]، والمرء في معالجته نفسه وترويضها ليس له من مُعين إلا الله، وهي في استجابتها لحوافز الخير وروادع الشر ما بين مطمئنة سلِسة القِياد، تأتمر بالمعروف، وتنتهي عن المنكر؛ وقد قال فيها الحق تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 – 30]، وبين لوَّامة تراقب صاحبها، وتعاتبه إذا أخطأ أو همَّ بخطيئة؛ وقد قال عنها عز وجل: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 1، 2]، وبين شيطانية أمَّارة بالسوء؛ كما ورد وصفها على لسان امرأة العزيز في قوله سبحانه: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [يوسف: 53]، وما أمرُ النفس صاحبها بالسوء إلا لكفرٍ أضمرته، أو شكٍّ في الحق خالجها، أو تعالت عليه كِبرًا وغرورًا، كحال فرعون مصر وملئه، إذ جاءهم بالحق موسى وهارونُ عليهما السلام في قوله عز وجل: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 76].
والحق – لغةً – أصل واحد يدل على صحة الشيء وقوة إحكامه، يُطلق اسمًا على نقيض الباطل، وعلى الثابت الذي لا ريب فيه، وصف به الله عز وجل نفسه؛ لأنه تعالى لا يأتي منه لجميع خلقه إلا الحق الذي لا ريب فيه، فهو من أسمائه الحسنى؛ قال عز وجل: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116]، و﴿ الْحَقُّ ﴾ [يونس: 76] في هذه الآية الكريمة هو التوحيد، كما يتبادر إلى الذهن من سياقها، وقد قال عنه تعالى: ﴿ مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [يونس: 76]؛ أي: من عنده تعالى وليس من عند غيره، نسَبه سبحانه لنفسه تشريفًا له وتعظيمًا، وتحذيرًا من الكفر به والمجادلة فيه، وجعل له من عنده كذلك نظامًا شاملًا متكاملًا للحياة هو الإسلام بأحكامه في الكتاب والسنة؛ وقال عنه عز وجل: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [آل عمران: 19]، وكلَّف بتبليغه إلى الناس رسلَه عليهم السلام كما هي سنته تعالى؛ بقوله: ﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 77]، وليس للمرء العاقل الحكيم أن يعادي أو يعتدي على من حمل إليه الحق أو بشَّره به، له فقط أن يبحث ذات الحق الذي بلَّغه، وأن يحاوره ويثاوره ويتدبره؛ كما أمر بذلك تعالى بقوله: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
من هذه الثغرة ضلَّ عُتاة قريش، فاشتغلوا بشخص الرسول المبلِّغ صلى الله عليه وسلم، ولم يشتغلوا بفهم رسالته التي هي الحق؛ فضلُّوا وقالوا: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، ومن قبل أعرض فرعون مصر عن قبول الحق من الله، وناقش شخص المرسَل به موسى عليه السلام؛ وقال: ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ [الزخرف: 52، 53]، فلما استهان بالرسول، برَّر رفض الرسالة واستهان بها، فلم يسمعها أو يفكر فيها؛ وقال: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 76].
لقد كان الحق الذي هو عقيدة التوحيد أول ما جاء به موسى عليه السلام إلى فرعون؛ إذ أرسله الله إليه بقوله تعالى: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 17 – 19]، وكان ثاني ما جاء به إليه وإلى ملئه أن يُحرروا بني إسرائيل من العبودية، ويرسلوهم معه بقوله لهم: ﴿ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 105].
وكما هي سُنة الله تعالى في بعثه الرسلَ، إذ يؤيدهم بالآيات والمعجزات، جعل لموسى عليه السلام آياتٍ لصدقه، وبينات لرسالته؛ بقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ [يونس: 75]، وكانت العصا التي تنقلب حيَّةً أولى هذه الآيات، واليد التي تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى؛ في قوله تعالى له أثناء عودته من مدين: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴾ [طه: 17 – 23]، إلا أن فرعون وملأه أعرضوا عن الحق الذي دُعوا إليه، وشكَّكوا في الآيات التي رأوها، وقالوا: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 76]؛ أي: إن هذا الانقلاب في العصا إلى حية، والبياض في يدك مجرد سحر بيِّن واضح، ثم لم يكتفوا بالإعراض والتكذيب، بل انطلقوا يتهمون موسى نفسه بالكذب والسحر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 23، 24]، وقال عز وجل: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 109]، وقال سبحانه: ﴿ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴾ [النازعات: 20 – 22].
ولأن صاحب الحق دائمًا أولى بالدفاع عنه؛ فإن موسى عليه السلام لم يستكِنْ لِما يحاولونه من تكذيب وتشكيك وعدوان، وردَّ عليهم مستنكرًا وموبِّخًا ومتعجبًا من سفاهتهم، بما ورد من قوله تعالى: ﴿ قَالَ مُوسَى ﴾ [يونس: 77] لفرعون وملئه: ﴿ أَتَقُولُونَ ﴾ [يونس: 77] أتجرؤون على القول ﴿ لِلْحَقِّ ﴾ [يونس: 77]؛ الذي هو الدعوة للتوحيد، والآيات المعزِّزة للحق وصدق المرسل به، ﴿ لَمَّا جَاءَكُمْ ﴾ [يونس: 77] مستخفِّين به مشكِّكين فيه: ﴿ أَسِحْرٌ هَذَا ﴾ [يونس: 77]؛ أهذا سحر جاء به موسى؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار والاستخفاف بالحق، ثم عقَّب محتجًّا على وصمهم رسالةَ الله بالسحر؛ بقوله: ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾ [يونس: 77]، والحال دائمًا أن السحر باطل، والسَّحَرة لا يفلح لهم رأيٌ، ولا يُثمر لهم عمل.
وكما هي عادة ضلال أي قوم في المماراة والمماحكة والمجادلة، والكفر بما يوحي به الله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الجدال في القرآن كفر))[1]، ردَّ ملأ فرعون على موسى كي يصرفوه عن حقيقة دعوته: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا ﴾ [يونس: 78] يا موسى؛ ﴿ لِتَلْفِتَنَا ﴾ [يونس: 78]، واللام في هذا الفعل لام تعليل متعلقة بالمجيء، والفعل “تَلْفِت” ماضيه “لفت” الشيء أي: لواه، أو صرفه عن الجهة التي يتجه إليها، أو عن الطريق التي كان فيها، ورجل لَفُوت وامرأة لفوت إذ كان من طبعهما الالتفات في الطرق، وهي خَصلة مكروهة؛ نُهي عنها بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾ [لقمان: 18، 19]، وقولهم: ﴿ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ [يونس: 78]؛ أي: أجئت إلينا لتصرفنا عن عبادة الأوثان والأصنام، والنجوم والكواكب، التي كان عليها آباؤنا، ﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 78]؛ أي: كي تكون لكما الكبرياء، وقرأها ابن مسعود والحسن، وإسماعيل وأبو عمرو وعاصم في رواية: ﴿ يَكُونَ ﴾ [يونس: 78] بالياء، مُعلِّلين بأن التأنيث في كلمة ﴿ الْكِبْرِيَاءُ ﴾ [يونس: 78] مجازي، و﴿ الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 78] هي جبروت المُلك، وعزة الحكم، وصَولة السلطان، تستأثران بها في أرض مصر، و﴿ الْكِبْرِيَاءُ ﴾ [يونس: 78] على صيغة فِعْلِياء، من الفعل “كبر وتكبَّر وعظُم وتعظَّم وتعاظَم وتعالى عن الغير”، كالسِّيمِياء وهي العلامة، والجِرْبِياء وهي الريح التي بين الصبا والجنوب[2]، و﴿ الْكِبْرِيَاءُ ﴾ [يونس: 78] صفة من صفات الله تعالى، من معانيها التعالي عن صفات الخلق وعن ظلمهم، والتفرد بالقدرة والسلطة والسلطان، يحرم على المؤمن أن يصف بها غير الله أو ينسُبها لمخلوق؛ قال عز وجل: ﴿ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجاثية: 37]، وادَّعاها فُجَّار الملوك والحكَّام وكفرتهم قديمًا وحديثًا؛ إذلالًا لشعوبهم، واستعبادًا لها، واستئثارًا بخيرات الأرض وثمارها، ثم كانت نتيجة الجدال بين موسى وبين فرعون وملئه أن أكَّدوا له إصرارهم على الكفر، ورفضهم دعوتَه؛ وقالوا له ولأخيه هارون: ﴿ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 78]؛ أي: لسنا بالذين يؤمنون لكما بما جئتما به.
بهذا الرد ظن الملأ أن قد صرفوا موسى عن دعوة الحق، بتحويلهم الحديث عنها إلى الحديث عن السلطان والحكم والمنازعة فيهما، وأُغرق فرعون في الكبرياء والاستعلاء، وظن آية موسى سحرًا؛ فدعا إلى استعراض قوة السحر لدى سحَرته: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ﴾ [يونس: 79] لملئه متحديًا: ﴿ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [يونس: 79]؛ أي: أحضروا لي كل ماهر في السِّحر مُتقنٍ له، ﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ ﴾ وكان موسى قد حدد لهم موعدًا للقائه؛ ذكَره الله تعالى في سورة طه بقوله عز وجل: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه: 59]؛ أي: لما حضر السحرة لمواجهة موسى، وجلس الفرعون وملؤه على منصة يوم عيدهم، وحُشر العامة في الساحات يشهدون ما يرجوه الفرعون من هزيمة موسى عليه السلام، ﴿ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ﴾ [يونس: 80] من أدوات سِحركم، ﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الشعراء: 44]، ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا ﴾ [يونس: 81] ما أعدُّوه من أدوات سحرهم، ﴿ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ﴾ [يونس: 81]، إن هذه الحبال والعصيَّ التي أتيتم بها مضاهاةً لآية الله التي جئتكم بها هي السحر بعينه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ﴾ [يونس: 81]، وإن ما تقومون به مجرد فساد يُبطل الله تعالى مفعوله وأثره؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 81]، وإنه سبحانه لا يرضى الفساد، ولا يبارك عمل السحَرة المفسدين، ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ﴾ [يونس: 82]، ينصر الله الحق الذي جاء به موسى ويُعْلِي شأنه، أنى كان، ومتى حلَّ، ﴿ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 82]، ينصر الحق دائمًا وفي كل حال، ولو أبى ذلك الفرعون وجنوده وأتباعه، ويُحقه بكلمته التي هي أمره لعصا موسى أمام السحرة، والفرعونُ وملؤه وقومه يشهدون: ﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف: 117 – 122].
لقد كانت نتيجة تحدي الفرعون لآيات الله أن بُهت وخسِئ وبطل كيده، فلم يزدَد إلا طغيانًا وكفرًا، وآمن السحرة كلهم، فلم يُفلح في ردهم عن الإيمان؛ رغم تهديده لهم بقوله: ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71 – 73].
أما بنو إسرائيل الذين بُعث موسى لتحريرهم من عبودية فرعون وقهره، فقد كان أول مجيئهم إلى مصر بقدوم يوسف عليه السلام إليها، وقد غدر به إخوته وباعوه، فمكَّن الله له فيها في عهد العزيز، كما فصَّل الله عز وجل ذلك في سورة يوسف؛ بقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ﴾ [يوسف: 54 – 56]، والتحق به والده يعقوب عليه السلام وجميع إخوته مع أزواجهم وذرياتهم، وهم على ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام، فتكاثروا فيها، وطال بهم الأمَد فضلُّوا عن عقيدة آبائهم، واستعبدهم الفراعنة، فاستأنسوا بخدمتهم والخوف منهم، كما هو حال كل من يتقرب إلى فسَقة الحكَّام وطغاتهم في كل عصر، فلما بُعث موسى عليه السلام إلى فرعون، ظلوا على ولائهم وخدمتهم لفرعون؛ خوفًا منه، وطمعًا فيه، وحرصًا على مصالحهم معه، ولما انتصرت حُجة موسى يوم الزينة، وآمن السحرة كلهم أمام أعينهم، ظلوا على ما هم عليه من الولاء للطاغية؛ ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى ﴾ [يونس: 83]؛ أي: لم يصدق بنبوته بعد تصديق السحرة، ﴿ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ﴾ [يونس: 83]؛ أي: فتية من بني إسرائيل، والذرية لغةً من فعل “ذرَّ، يَذُرُّ”، ويدل كما قال ابن فارس في معجمه على لطافة وانتشار، والذَّرُّ مصدر ذَرَرْت، معناه: أخذك الشيء بأطراف أصابعك تَذُرُّه، كذرِّ الملح على الطعام، وذرَّ الله الخلق في الأرض؛ أي: نشرهم، ومنه الذَّر وهو صغار النمل، والذرية منسوبة إلى الذر؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ﴾ [الأعراف: 172]. والذرية التي صدقت بموسى أول مبعثه بعد إيمان السحرة كانوا مجرد فتية صغار وشباب من بني إسرائيل، آمنوا دون كبارهم الذين ألِفوا ذلة الخدمة وطاعة فرعون، ﴿ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾ [يونس: 83]؛ أي: آمنوا بموسى وهم خائفون حذِرون من فرعون وبطشه، ﴿ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ﴾ [يونس: 83]، والفعل ﴿ يَفْتِنَهُمْ ﴾ [يونس: 83] من الفعل: فتن يفتن فتنة، ومنه “الفتنة”، وجماع معناها: الابتلاء والاختبار، من قولك: “فتنت الذهب”؛ أي عرضته على النار لأختبر صفاءه، أو لأميزه عما خُلط به من معادن ليست منه؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2]؛ أي: وهم لا يُختبَرون، وقوله عز وجل عن أهل النار: ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ [الذاريات: 13، 14]، وفتنة فرعون لهم عن دينهم أن يحاول ردَّهم عن الإيمان بالإكراه؛ تهديدًا أو سجنًا، أو تعذيبًا أو قتلًا أو صلبًا، لا سيما وهو حينئذٍ في أشد حالات استعلائه وتكبره؛ كما قال تعالى عنه: ﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 83]، مستعلٍ مغرور بقوته وجنده وطغيانه، ﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [يونس: 83]، والإسراف لغةً تجاوُز الحد أو القدر، والمبالغة في الشيء، فعلًا أو عطاءً أو منعًا، أو عقوبة أو تأديبًا؛ أي: إن فرعون إذا خُولف أو غضب، بالغ في الانتقام إذلالًا أو تعذيبًا أو قتلًا.
في مثل هذه المواقف المفصلية من مسيرة كل حركة تأسيسٍ إصلاحي عقَدِي في المجتمع، تتجلى قوة إيمانِ قائدها بما يدعو إليه، ومدى معرفته بحقيقة هدفه الذي يسعى له، وطبيعة الطريق التي يسير فيها، ومدى صلابته وقدرته على مواجهة نتائج ما يدعو له، واستعداده لتحدي المخاطر والصعوبات التي قد يواجهها أو تواجهه، وقدرة أتباعه وشركاء طريقه على التحمل والصبر والثبات، وهي صفات كلها ضروري توفرها في أصحاب الرسالات الإنسانية التغييرية؛ ولذلك خاطب موسى عليه السلام فِتيتَه المؤمنين على قلَّتهم، مرشدًا ومثبتًا بما ثبت به الله تعالى أيضًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو مع القلة المؤمنة في مكة قبل الهجرة؛ بقوله عز وجل: ﴿ وَقَالَ مُوسَى ﴾ للفتية الذين اتبعوه، واتخذهم قومًا له على صغر أسنانهم: ﴿ يَا قَوْمِ ﴾ [يونس: 84]، يا قومي الذين آمنوا برسالة الإسلام، وأنتم فئة قليلون يكاد الطير يتخطَّفكم، والفرعون يهدِّد بقتلكم، ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ﴾ [يونس: 84]، أسلمتم له تعالى، وآمنتم حقًّا بما جئتكم به، فإن للإيمان ثقلًا ينبغي تحمله، وبلاءً ينبغي الصبر عليه، وليس لكم نصير في ذلك أو معين إلا الله، ﴿ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ﴾ [يونس: 84]، فثِقوا بوعد الله لكم بالنصر، واعتمدوا عليه، ولا تُبالوا بما يُخيل لكم من قوة فرعون الواهية أمام قوة الله الغالبة القوية، ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84]، مستسلمين حقًّا لله، مؤمنين برسالته، موقنين بما وعدكم به من النصر والتمكين، وقد رتَّب الحق تعالى على لسان موسى عليه السلام في هذه الآية الكريمة معالمَ الإيمان والإسلام ترتيبًا متماسكًا معجزًا، إذا تخلَّف أحدها أو انتقض، تخلفت معالم الإيمان كلها وانتقضت؛ وذلك لأن التوكل ثمرة الإيمان ونتيجته، والاستسلام لأمر الله طاعةً ورضاء وإخباتًا علامتُه وشاهده، فإن اتضح التصور الإيماني بالله في ذهن المرء وقلبه، قوِيَت ثقته بالله وازداد توكله عليه، وظهر أثر ذلك في أقواله وأفعاله، واختياراته وقراراته، وإن ضعًف الإيمان واختلَّ تصوره، ضعف التوكل أو كاد أو انعدم، وقد صادف نداء موسى في فتيته المؤمنين آذانًا سامعة، وقلوبًا مؤمنة، وأفئدة واعية، كما هي طبيعة الشبيبات في كل عصر؛ إذ تُسارع إلى دعوات الخير ونصرة الحق، ﴿ فَقَالُوا ﴾ [يونس: 85]؛ أي: فتية موسى: ﴿ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [يونس: 85]، اعتمدنا على الله ثقة به وولاء له، ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 85]؛ أي: لا تسلط علينا من يعذبنا عذابًا يُخيف غيرنا من الكفار، ويُبعدهم عن الإيمان، فيزدادوا خضوعًا للفرعون وتشبُّثًا بخدمته، ودفاعًا عنه وثقة بما يدَّعي من الألوهية والعلو في الأرض، كما هي طبيعة النفوس الخائرة التي تتنكر للحق، وتُبرر الباطل عندما تخاف أو تطمع، فيتنكر المرء لأقرب الناس إليه؛ كما كان في العهد النبوي حالُ الذين قال عنهم الحق تعالى: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 18].
وكما رأيناه بأعيننا، وسمِعناه بآذاننا من مواقف بعض الذين خرجوا من سجون الطغاة، فتنكَّروا لِما كانوا يدعُون إليه، وسلقوا الصادقين بألسنةٍ حِداد، وأبدعوا في الدفاع عن الباطل، ثم واصل فتية موسى دعاءهم اللهَ فقالوا: ﴿ وَنَجِّنَا ﴾ [يونس: 86]، أجِرنا وأنقذنا ﴿ بِرَحْمَتِكَ ﴾ [يونس: 86]، لا برحمة غيرك من أهل أو أقارب أو أحباب، ولا بجهدنا واجتهادنا واعتمادنا على أنفسنا، ونجِّنا ﴿ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 86]، قومِ فرعون وملئه وجنوده، لقد كان هذا الموقف الإيماني من فتية موسى عليه السلام عينَ موقف إبراهيم عليه السلام عند مواجهته النمرود وأعوانه؛ إذ قال: ﴿ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 4، 5]، ونفس موقف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، كما كان موقفًا أشهد به يوم القيامة لشابٍّ تقي صادق مطارد حصل على الإقامة في فرنسا، فقلت له: حاول أن تحصل على الجنسية لتكون أكثر احتماء بها، فأجابني بكل حياء: “تعلم شيخي أن الحماية من الله، وأن الذين يُعطُون الجنسية يستطيعون انتزاعها متى شاؤوا”، فازددتُ محبة له وثقة به، إلى أن توفاه الله على ذلك.
لقد أصبح لموسى وهارون بالفتية المؤمنين وضع جديد؛ إذ صار لهما أتباع مؤمنون ومجتمع مؤمن، وهذا يقتضي إحداث نظام اجتماعي يساهم في تعزيز اللحمة بين أعضائه؛ عبادةً وتعاونًا، وتناصحًا وتشاورًا، وتميزًا عن مجتمع فرعون وملئه؛ وذلك ما أمرهم به الوحي الكريم إذ قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ ﴾ [يونس: 87]، أمرهما الله تعالى وحيًا منه سبحانه، ﴿ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ﴾ [يونس: 87]، أن اتَّخِذا في مصر منعزلين عن فرعون وقومه بيوتًا للسكن والعبادة، ﴿ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ [يونس: 87]، واجعلوا أبوابها متجهة للقبلة، ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [يونس: 87]، أدُّوها قويمة تامة في بيوتكم، آمنين من بطش فرعون، ﴿ وَبَشِّرِ ﴾ [يونس: 87]، يا موسى ﴿ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 87]، الذين اتبعوا سبيلك بالنجاة من فرعون، والنصر عليه في الدنيا، وحسنى العاقبة في الآخرة.
لقد أسس موسى وهارون والفتية معهما بوحي من الله مجتمعًا مؤمنًا، سليمَ العقيدة، واضحَ الرؤية، وأُذِن لهم بالصلاة في بيوتهم بعيدًا عن أعين الظالمين وجنودهم من المخبرين والمتلصِّصين، متفرغين للعبادة والذكر، بُعَدَاءَ عن الفتن، ولكن موسى وهارون لم ينسيا ما يثيره الفرعون في قلوب عامة قومه من الخوف، وما يعاملهم به من الاستضعاف والازدراء، وما يمارسه فيهم من الظلم والفساد، وما يُصر عليه من الشرك والعلو بغير حق، فدَعَتْه الحمية لدين الله والغضب له، والعجز عن التغيير بيده إلى الاستنصار بالله، والدعاء على فرعون بما وثَّقه عز وجل وحيًا ونموذجًا يُحتذى في آية محكَمة؛ بقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى ﴾ [يونس: 88]، وهارون يؤمِّن على دعائه، معترفًا بضعفه وضعف أخيه عن تغيير المنكر، داعيًا على عدو الله، مناديًا ربه تعالى بوصف الربوبية تذللًا وإظهارًا للعبودية: ﴿ رَبَّنَا ﴾ الفعَّال لما يريد، ثم وطَّأ لطلب سلب النعم عن فرعون وملئه بذكر ما آتاهم الله منها؛ بقوله: ﴿ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ﴾ [يونس: 88]، أعطيتهم عطاءَ اختبارٍ واستدراجٍ ﴿ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [يونس: 88]، والزينة في اللغة والعرف الاجتماعي هي ما يتزين به الناس، وتستحسنه الأعين، وتزهو به الأنفس من المتاع، أموالًا وحُليًّا، وجواهرَ ومعادن نفيسةً من الذهب والفضة، والمباني الضخمة، والقصور الفارهة، يختبر بها الله تعالى كثيرًا من خلقه؛ كما قال عز وجل: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، وقال عنها عز وجل عندما تركها الفرعون وملؤه غرقى في البحر وراءهم: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 – 29]، ثم أعاد موسى دعاءه الله بصفة الربوبية أيضًا، تبرؤًا من الاعتراض عليه سبحانه، وإلحاحًا في طلب الإجابة؛ فقال: ﴿ رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾ [يونس: 88]، واللام في الآية لبيان عاقبة أمرهم بهذا العطاء؛ كما ذهب إلى ذلك الخليل وسيبويه وأصحابهما؛ على نحو اللام في قوله تعالى: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ [القصص: 8]؛ أي: فيَضِلوا بما أُوتوا من النعم عن سبيل الله، ويُضِلوا غيرهم، وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب ﴿ لِيَضِلُّوا ﴾ [يونس: 88] بفتح الياء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء ﴿ لِيُضِلُّوا ﴾ [يونس: 88]؛ أي: يُضلوا غيرَهم من الأتباع والخَوَل[3]، وكلتا القراءتين صحيحة.
ثم أعاد موسى النداء ثالثة، بوصف الربوبية؛ تأكيدًا لتعلقه بالله، ويقينه بأنه الفعَّال لما يريد، وتصريحًا بما يسأله من ربه؛ فقال: ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾ [يونس: 88]، والطمس لغةً من الفعل “طمس” الشيء أي: محاه وأذهب أثره، وطمس النجمُ وانطمس: ذهب ضوؤه، والطمس هو الآية التاسعة من آياتِ موسى حين دعا به على فرعون، فاستُجيبت دعوته، ﴿ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [يونس: 88]؛ أي: اختم عليها بالقسوة والعناد، ﴿ فَلَا يُؤْمِنُوا ﴾ [يونس: 88]، فلا تنشرح قلوبهم للإيمان ﴿ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]، وهو ما تحقق عند غرق فرعون؛ ونزل وحيًا بقوله تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 90 – 92]، وكان غرقه مربوطَ القلب على الكفر، مهزومًا معترفًا بالعجز، مردودًا عليه إيمانه، استجابة من الله لدعوة موسى وهارون؛ إذ قال لهما: ﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا ﴾ [يونس: 89]، وعلَّق تعالى استجابة دعائهما بشرطين:
أولهما: الاستقامة؛ في قوله سبحانه: ﴿ فَاسْتَقِيمَا ﴾ [يونس: 89]؛ أي: واظِبا وداوِما على استقامتكما، والفعل “استقام” من الفعل “قام يَقوم”، أي: نهض وانتصب واقفًا؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]؛ أي: أكثر استقامة؛ قال الزجاج: “معناه: للحالة التي هي أقوم الحالات؛ وهي توحيد الله، وشهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان برسله، والعمل بطاعته”، وزِيدت في الفعل الثلاثي “قام” أحرف الطلب، وهي الألف والسين والتاء، فصار: “استقام”؛ أي: اعتدل واستوى، والاستقامة في معناها العام كلمة جامعة لأمر الدين والدنيا، ينال المرء بها برد اليقين، ويدرك بها أعلى درجات العاملين، وأرفع منازل السالكين، والفوز بسعادة الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 14].
وفي حديث سفيان بن عبدالله الثقفي قال: ((قلت: يا رسول الله، قل لي قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))[4]، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “عليك بمنهج الاستقامة، فإنه يكسبك الكرامة ويكفيك الملامة”، وقال أيضًا: “لا مسلك أسلم من الاستقامة، ولا سبيل أشرف من الاستقامة”.
وفي ربط استجابة دعاء موسى وهارون بالاستقامة معنى عميق هو سر الولاية لله سبحانه؛ إذ الولاية لا تُكتسب إلا بالاستقامة لمحبته تعالى، والطاعة لأمره ونهيه، فتحصل بذلك الولاية؛ قال سبحانه: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63]، وقال عز وجل: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة: 55، 56]، وفي الحديث القدسي قال تعالى: ((أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خيرٍ منهم، وإن اقترب إليَّ شبرًا اقتربت إليه ذراعًا، وإن اقترب إليَّ ذراعًا، اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولةً)).
أما الشرط الثاني الذي علق به الرحمن الولايةَ بالاستقامةِ المُكسِبةِ لاستجابةِ الدعاء؛ فهو في قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 89]، والفاء في أول الآية الكريمة هي الفاء الفصيحة التي تفصح عن شرط محذوف يُفهم من السياق، و”استقيما” فعل أمر، وألف الاثنين فاعل، والواو في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعَانِّ ﴾ [يونس: 89] للعطف، و”لا” ناهية، و”تَتَّبِعَانِّ” فعل مضارع مجزوم بحذف النون، فاعله ألف الاثنين، مؤكد بنون التوكيد الثقيلة التي كُسرت لوقوعها بعد ألف الاثنين، و﴿ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 89] هم كل من جهِل أحكام الإسلام عقيدة أو شريعة أو أخلاقًا سوِية، أو عاندها أو شكَّك فيها، مسلمًا كان أو كافرًا ومن أي دين.
لقد خطا موسى عليه السلام في فترة عمَّها الجهل والجهالة، وأطبق فيها الظلم والاستبداد على العباد، وأظهر فيها كل طاغية كبره وتجبره – أولَ خطوة عملية تأسيسية لأمة الإسلام الجديدة، بشبيبة قليلٍ عددها، قويٍّ إيمانها، استخلصهم من بين ركام متلاشٍ متهالك، لأمة ذليلة خانعة تخاف غير ربها، واتخذ لهم بتوجيه من ربه بيوتًا هي مبيتهم وهي معبدهم، كما كانت سُنة إبراهيم عليه السلام؛ إذ قال لقومه: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 48]، وكما سار على نفس النهج محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ اتخذ لأوائل المؤمنين من دار الأرقم بن أبي الأرقم بيتًا للتبليغ والترشيد، وعندما ضيَّق به قومه وهددوا بقتله، فأرسل فئة من المؤمنين يبحثون عن مأوى آمن في الحبشة، ثم اتخذ من المدينة مهجرًا ومنطلقًا لدعوته ولجهاده.
تمت قراءة هذا المقال بالفعل79 مرة!
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.
ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق