سفر: العدرا تجمعنا
لم يقل لي أحد لماذا يأكل الدراويش الفول النابت، يقبلون عليه بنَهم، تتعجب إذا عرفت أن بعضًا من المسيحيين يأكلون الفول النابت يوم الجمعة العظيمة في ختام الصوم، الأمر يحتاج إلى تحقيق تاريخي وبحث في كتاب الزمن ووقائع الدهور.
كثير من الاحتفالات الدينية تتداخل في مصر لا تكاد تعرف هويتها.. خاصة في صعيد مصر.. مهد الحضارة.. تحول الآن إلى أرض الفقر والتطرف.. إلى أرض الحرمان والعنف.. عنف الناس مع الناس (الثأر).. وعنف الناس مع الدولة (الإرهاب).. لِمَ تحول وكيف.. وأيّ ذنب جنى؟.. الموالد في الصعيد تحار فيها هل هي للمسلمين أم للمسيحيين أم لهما معًا.. مولد «العدرا تجمعنا» يقام على جبل الطير بالمنيا بنهاية مايو حيث تعد المحافظة مهد التوحيد الإخناتوني.. حضرت هذا المولد وأنا طالب بكلية الحقوق دعاني إليه صديقي فهيم المسيحي، كنت أسمع الأمسية الدينية كل ليلة في غرفة فهيم ، كان صعيديًا شهمًا ساذجًا طيبًا حين كنا نسير في محطة الرمل كان ينظر لنساء الإسكندرية، ويقول لي «يا نهار أسود يا رجالة لو بلدنا يبقى فيها شارع زيّ ده ونسوان قشطة وملبن كدا؟! يا خرابي».
أضحك معه.
وأقول له «عيب، إنتَ مسيحي».
فيقول «يعني هو حلال على المسلم ما انتوا بتعاكسوا البنات المسيحيين.. يا عم إيه دخل الدين في قلة الأدب، أنت صعيدي، مشيها وحدة وطنية».
فأضحك فأقول له «لا، أنا فلاح ولي الشرف».
فيرد «ألعن وأسود وأضل سبيل الفلاحين والصعايدة في النار معقول الرب حيحرق الناس النظيفة الحلوة دي ويسيبنا؟».
فنضحك عليه حتى نكاد نسقط على الأرض.
فهيم قال لي «يا عم انت طالما بتسمّعني قرآن تعالى احضر معايا مولد عُمرك ما حتنساه».
بالفعل ذهبت إلى قريته النائية البعيدة شعرت أنها ما زالت في مطلع القرن العشرين، بيوت من الطين مسقوفة بالحطب والقش وأبوابها خشبية ومدهون بعضها بالكاد بالجير، لو أمطرت السماء بشدة لهلكت هذه البيوت ولأصبح سكانها رهن الخلاء، البيوت تنطق بالجوع، تخفي المرض.. مرسوم على وجهها الأمية.. الفاقة المكتومة.. المرض الذي ينخر في الجسد.. أمام البيوت طرمبة كما يسمونها يدوية لشرب المياه.. وعلى الأسطح أقراص الجِلّة من روث الماشية وحزم حطب الذرة، بجوار الطرمبة مرقد للبهائم وحوض لتشرب منه وعلى بعد خطوات فرن بلدي، نعم هناك بيوت في الجانب الآخر من القرية تنطق بالحداثة، بالثراء مجهول النسب.. بعضها ينطق بالقِدَم والأصالة، الأغلبية تائهة حائرة بل خائرة القوى بين البيوت العتيقة لأعيان القرية والأعيان الجدد مجهولي النسب والهوية أبناء «الندولة والأرض المجهولة» التي تكلمت عنهم نفيسة الشيخة (رحمة الله عليها).. لم أشعر أن الصعيد غريب عن بحري.. لكن بحري يسبقه في الحياة بخمسين سنة تقريبًا.. هناك وجع مكتوم وألم ساكن في كلا الجهتين مع تغير المباني والرسوم والحجر، لكن آلام البشر، أنفسهم المرهقة، مشاعرهم المكتومة، كانت تطالعني من نفس الوجوه الطيبة التي ألقاها في قريتي.. لكن القرية هنا ما زال أصحابها يحرصون على صلاة الفجر ثم سحب البهيمة في اتجاه الحقل، لم يجرفها تيار التليفزيون ولم تطمس المدنية أصالة روحها وارتباطها بالأرض التي تجلب لقمة العيش الطاهرة، الحياة بكر.. لم يغتصبها الانفتاح ولم تلوثها المدنية بالجانب السيئ من أخلاقها.
لم أشعر أن عمي حنين، والده، مسيحي، ولم أشعر أن أمه مريم إلا أم لي، ثلاثة أيام قضيتها كأني في عالم آخر، لم أكن أعرف عن فقر الصعيد إلا ما تبثه الأخبار لكن لم أكن أدرك أن هناك كرمًا بالفطرة ومشاعر جميلة في العالم بهذه الصورة.. كانت من الأيام القليلة التي أشعر أن الزمان والمكان كفّا عن مطاردتي ولولا احتفاؤهم الزائد وإحساسي أنني أكلفهم فوق طاقتهم من كل الزوايا للبثت شهورًا مع صديقي.
شاركت أنا وهو معًا يدًا بيد وقدم بقدم في الاحتفال حيث عبَرنا مع رواد المولد والمحتفلين بالمعدية مثلما كان يفعل الفراعنة حيث تقام شعائر الاحتفال في البداية في النيل ثم الذهاب للمعبد على الضفة الأخرى من النيل. ويعد هذا المكان من أماكن زيارة العائلة المقدسة، السيدة العذراء قضت فيه ثلاث ليالٍ لذلك يعتبر مكانًا مقدسًا للمسلمين والمسيحيين.
أين الآن فهيم؟ دمعت عيني رغمًا عني.. مات فهيم في أحداث فتنة طائفية وقعت بقريتهم إثر هروب فتاة مسيحية مع شاب مسلم قيل إن الأمور أوشكت على الحل إلا أن صحيفة الخبر ذات الكلمات الصفراء المدنسة بالأكاذيب وحكايات الدعارة والصور الخليعة والمثيرة أشعلت النار في الحدث المكتوم، كان محضرًا صغيرًا في دفتر أحوال مركز الشرطة، إشاعة لم تصدق بعد إلا أنها نفخت في النار المكتومة صبت عليها الزيت فكادت تأكل الأخضر واليابس وشارك في ذلك بالطبع برنامج ابحث عن الحقيقة استضاف ممثلاً عن كل طرف ممن لا يعيشون هناك ولا هم قابضون على النار بأيديهم وإنّما يضعون دولارات البرنامج في جيوب بدلهم المستوردة من تركيا وإيطاليا وتعلو وجوههم ابتسامة زهو وهم يستقلون سيارة القناة الفضائية لتوصيلهم إلى بيوتهم ربما يجلسون معًا يستمتعون بالشهرة المشتركة التي حققوها هذا المساء ، اشتعل الموضوع راح فهيم ومعه عشرون مسيحيًّا وأحرقت الكنيسة وأصيب ثلاثين مسلمًا ومات اثنان لا صلة لهما بالموضوع، كان ذلك عام 2012 لا أنسى آخرمرة كلمني على الفيس عام 2011 أخبرني لماذا لا تحضر للمولد هذا العام له طعم خاص، فهيم عمل سكرتيرًا للمحكمة الكلية قانعًا راضيًا بحاله قال لي لماذا لا تأتي لقد عاد المسلمون لحضور الاحتفال حكى لي أنه في عام 2010، صدر قرار بمنع المسلمين من الحضور حتى لا تحدث احتكاكات.. غضب المسلمون وغضب لغضبهم المسيحيون ومنع القس متى كامل الصلاة بالدير اعتراضًا على قرار منع المسلمين، وقام بعض الأقباط بمسيرة احتجاجية على القرار إلى أن عادت مشاركة المسلمين في الاحتفال.. حكى لي والسعادة تغمره.. كأنه يرد على محرضي الفتنة باعثي الفوضى.. اعتذرت بلطف رد عليّا «ولّا يعني احنا مش قد المقام؟».. قلت «عيب عليك يا حمار يا صعيدى ».. ضحك وضحكت.
عرفت الخبر في صبيحة أحد الأيام الحزينة التي كثرت بتفاصيلها المؤلمة ووجهها الذي تطل معه الفجيعة كانت أطالع جريدة الأهرام وجدت تفاصيل أحداث فتنة المنيا، شيء ما جذبني إلى أسماء الضحايا كان اسمه يقع في آخر الضحايا تمنيت لو ارتحل إلى أسفل ودخل في عداد المصابين بدلاً من الموتى، لم أكن أدرك أن رصاصات الفتنة وأدعياء الدين والشرف ستطوي صفحة جميلة من صفحات حياتي، قلب نقي طاهر أقسم بالله ما فرق يومًا بين مسلم ومسيحي وكان خلقه وسمته أعظم من بعض أبناء قريتي وأقاربي الذين عاشرتهم طوال العمر.
ترقرقت الدموع في عيني، سالت على خدي، كانت كمادة حارقة سقطت على وجهي أيقظتني على واقعي همهمت بالرحمة على صديقي ودعوت له بالمغفرة وطويت الجريدة وألقيت بها جانبًا، كان جرحًا جديدًا من جراح الوطن، محنة على أرض الصمود والتحدي لكن وقعها لم يترك قلبي في حاله، فارتفع الضغط وضاق نَفَسي وعلا صدري وكاد الموت يقبض على حنجرتي من شدة الوجع وألم النفس والمرارة التي شعرت بها.
مات فهيم، أمل أسرته في حياة كريمة، مات نتيجة للجهل والفتنة وغياب الدولة، ولم أهتم بقيمة التعويض الذي كان عنوانًا رئيسيًّا في صفحات الجرائد الحكومية.. خمسون ألفًا لكل قتيل وخمسة وعشرون لكل مصاب وثلاثون ألفًا عن كل منزل محروق.. مال الدنيا لن يعيدك يا فهيم.. لن يرتُق نفس والده التي تمزقت.. لن يطفئ حزن أمك التي أكيد لن تبقى طويلاً بعد أن سُلبت روحها.. أعلم أنك كنت الحلم البسيط للأسرة تمامًا كصديقي خالد.. خالد كان أيضًا أمل أسرته في غد أفضل، مات من جراء أدوية الحقل والنباتات، الأطعمة المسرطنة.. داء الكبد ما ترك بيتًا إلا زاره وبيده ملك الموت يقدم له ما يشاء.. أكل كبد خالد كملايين المصريين.. غاية الأمر أنه اختار هذه المرة غصنًا أخضر شجرة لم تسعها الأرض لتورف ظلالها على أهلها الطيبين مات خالد.. وما زال والده يجلس أمام الحارة الضيقة التي يسكن فيها، كلما رآني سألني متى يعود، أما أمه فقد ذهبت إلى عالم آخر تعيش فيه مع خالد رغم أنها بجسدها قابعة في وسط بيتهم الذي كثيرًا ما يطفح فيه الصرف الصحي بعد أن انخفض الدور الأرضي ولم يعد هناك خالد الذي وعدهم بنقلهم إلى منزل الجديد.
ما بين خالد وفهيم مسافة تتراوح ما بين خمسمائة كيلومتر.. دولة.. مسافة كبيرة وحدود فاصلة.. لكن الشريك وربما المحرض على الموت في الحالتين واحد.. كنت أظن أن «العدرا» هي وحدها التي جمعتنا.. لكن الدولة الغائبة.. والموت دون جريرة هما أيضًا جمعانا.. أكدا لنا الوحدة الوطنية.. التي نوشك أن تنقرض في الواقع.. وبرغم بُعد المسافة بينهما وطولها الشاسع فكانت بينهما بالنسبة لي قصيرة جدًّا لدرجة أنهما يكادان يتزاحمان على لحظة حزن ودمعة عين وقلب موجع في حجم قبضة اليد.
✅ تابعنا الآن عبر فيسبوك – قناة التليغرام – جروب الوتس آب للمزيد من القصص الجديدة يومياً.
ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق












اترك تعليقاً