dark

رييل ستوري | في وداع الثقافة الوطنية الحقيقيّة | آراء

0
(0)

معرض القاهرة الدولي للكتاب انتهت دورته الخامسة والخمسون منذ أيام قليلة بحُلوها ومرّها، لكن المعرض ظهر في فضاء “القاهرة ” ـ للمرة الأولى ـ في العام “1969”، بإشراف الراحلة الدكتورة سهير القلماوي، التي كانت تتولى رئاسة “الهيئة العامة للكتاب” الهيئة الكبرى والأضخم، التابعة لوزارة الثقافة، وهي التي تملك أكبر المطابع، ولها منافذ تسويق وتوزيع في جميع المدن المصريّة، وفي غالبية العواصم العربية.

وكان الزمن هو زمن “حرب الاستنزاف ” التي كانت لها ظروف سياسيّة وعسكرية، لا مجال للحديث عنها هنا. فما قصدت قوله هنا؛ إن “معرض القاهرة الدولي للكتاب” كان خطوة طيبة، جعلت شرائح “الطبقة المتوسطة” تعتاد القراءة.

كانت أسعار الكتب رخيصة، وكان وقت هذه الطبقة يسمح لها بالقراءة، وجرت تحوّلات اقتصادية وسياسية، جعلت وزارة الثقافة تعتمد على “معرض القاهرة ” في حشد جماعات الإبداع والفكر، في مديريات الثقافة في المحافظات، واستضافة المبدعين العرب الكبار للمشاركة في فعاليات المعرض، مثل: الشّاعر الفلسطيني “محمود درويش” و”أدونيس”، والروائي السوداني “الطيب صالح”، وغيرهم.

كان الجميع يأتون إلى القاهرة، فيجدونها مستعدة؛ الفنادق، والمواصلات العامة، وبرامج الإذاعة والتلفزيون، وكل هيئات وقطاعات الحكومة، وكانت الطبقات الشعبية في القاهرة والمحافظات تعتبر المعرض نزهة ورحلة، تكسر الملل من دون تكلفة مالية كبيرة.

وبمرور السنوات، تحول معنى “الثقافة الوطنية” من مشروع تتبناه “الدولة”، إلى “مشروع سياحي ” يحقق الربح لوزارات الحكومة، والقصد هنا أن “الكتاب الورقي” كان أداة من أدوات تحقيق الحضور للدولة المصرية في الدوائر الثلاث التي تعمل في سياقها: الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية، والدائرة الإسلامية.

وكانت “الحكومات المصرية” المتوالية تستضيف الدول العربية والإسلامية، وتقدم التسهيلات للناشرين العرب والأفارقة والمسلمين الذين يحرصون على التواجد في “القاهرة”.

السياحة الثقافية

وغياب معنى “الثقافة الوطنية ” من كونه عنصرًا من عناصر “القوة الناعمة ” للدولة المصرية، وحضور معنى “السياحة الثقافية” جعل ذلك “الطبقات الشعبية ” والمثقفين، ينسحبون من المشهد؛ لأن السياحة الثقافية، جعلت مشهد “معرض القاهرة ” مشهدًا مكلفًا، يفوق الطاقة المالية لهذه الشرائح التي تعيش تحت وطأة التضخم، وانهيار قيمة “الجنيه” في السنوات الأخيرة.

وحسب طبيعة “الجمهور” تتغير مضامين “الكتب الورقية “، فالجمهور “الغني” تهمه المتعة والتسلية، فجرى التحول الكبير في سياسات دور النشر المصرية، فهجرت “الثقافة الجادة” التي تتناول الفكر والتاريخ والفلسفة، وكافة الفروع التي تبني “العقول”، وترسخ مفاهيم معادية للصهيونية والإمبريالية وتحدد أبعاد “الشخصية المصرية ” بامتداداتها العربية والإسلامية والأفريقية.

وأغرقت الأسواق والمكتبات وأجنحة المعرض، بكتب تناسب الجمهور الجديد، الذي يشتري كتابًا سهلًا من نوعية ” كيف تحب زوجتك وتصبح مليونيرًا في ساعتين”.

ولم تكتفِ دور النشر بطباعة الكتب المسلية، بل لجأت إلى طباعة الكتب التي تتناول قصص ومذكرات المخرجين والفنانين من روّاد صناعة السينما، والكتب التي تحتوي مقالات روّاد الصحافة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.

وهذا التحول في سلوك دور النشر، القصد منه التهرّب من دفع المستحقات المالية للمؤلفين؛ لأن مرور خمسين سنة على نشر كتاب، تجعله مباحًا للجميع.

 جفاف الإبداع

وفي ظلّ الجفاف الإبداعي والفني الذي تعيشه مصر، أصبحت الكتب التي تحكي قصص حيوات “بديعة مصابني، ونجيب الريحاني، وكامل الشناوي، ومحمود السعدني ” ملجأ ومهربًا، للذين يشعرون بالحنين إلى سنوات شبابهم والأيام التي كانوا فيها يشترون مجلات “روزاليوسف”، و “صباح الخير”، و “الهلال ” ويقرؤُون مقالات كتّاب يمتلكون الصنعة والموهبة في آن.

وعمومًا، قصدت القول؛ إنني ذهبت إلى “معرض القاهرة الدولي للكتاب” المقام، في صحراء شرق القاهرة، في موقع لا أستطيع تحديد اسمه الرسمي، ورأيت ما أحزنني، رأيت وجوهًا لا أعرفها، وتجوّلت بين أجنحة دور النشر، فهالتني الأسعار الرهيبة، ولم أجد المثقّفين والمبدعين؛ لأنهم كانوا في الغرف المغلقة، أو “القاعات ” الفخمة، التي قضت على الهدف من إقامة المعرض.

ففي السابق أيامَ كان المعرض يقام في “أرض المعارض ” في ” مدينة نصر” كان الزخم الثقافيّ يتحقق، وكان التواصل بين المبدعين المصريين والمبدعين القادمين من الدول العربية الشقيقة يتم ويؤتي ثماره الطيبة.

وكانت المناقشات في المخيّمات التي أُقيمت لفروع الفنّ والإبداع، تجعل “الثقافة الوطنية” حاضرةً في أذهان الناس، فكان المواطن المصري الفقير، بإمكانه مشاهدة فيلم سينمائي جديد، وكان بإمكانه شراء كتب رخيصة الثمن، وكان “المواطن” حاضرًا في أذهان القائمين على المعرض، وكما يقول الشاعر العربي الأندلسي: “لكل شيء إذا ما تمّ نقصان “.

جيش المثقفين

عدت من رحلتي إلى المعرض “الصحراوي” وأنا واثق من أن “الثقافة الوطنية ” لم تعد تشغل القائمين على وزارة الثقافة، وأن كل مواطن مصري عليه أن يبحث عن مصادر هذه الثقافة، ويبني نفسه بنفسه، وأن وجود وزارة الثقافة يمثل عبئًا على الموازنة العامة للدولة.

وبالتالي فإن وزارة السياحة، يجب أن تستولي على مقرات وأملاك وأصول وزارة الثقافة، مادام مفهوم الثقافة أصبح قريبًا من مفهوم السياحة، وبالتالي، يجب أن تتولى وزارة السياحة مهمة تنظيم معرض الكتاب في القاهرة.

وليس من الضروري ـ لأسباب تسويقية ـ أن يكون قاصرًا على “الكتب”، يمكن أن يشمل عرض سلع تذكارية: “تماثيل فرعونية مستنسخة، أنتيكات وهدايا من خان الخليلي “.

وتبقى مشكلة “جيش المثقفين ” الذي ارتبط “أكل عيشه” بوزارة الثقافة، وهذا الجيش من السهل استيعابه في وزارة التربية والتعليم والأوقاف والإدارة المحلية.

ورغم أن وجود وزارة الثقافة ضمن التشكيل الوزاري في مصر، قديم “منذ العام 1957″ وكان لهذه الوزارة أهمية في ترقية وجدان الشعب، فإن ” التسويق السياحي ” السائد والمهيمن على عقول كبار موظفي “الثقافة ” يفرض قطع علاقاتهم بالكيان المسمّى “وزارة الثقافة ” وإلحاقهم بأية هيئة أخرى معنية بالسياحة وتحقيق الأرباح، بعيدًا عن الثقافة الوطنية والكتب والصداع الذي لا طائل من ورائه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 0 / 5. عدد الأصوات: 0

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

رييل ستوري | الرؤساء السنغاليون

Next Post

رييل ستوري | جويس هال.. الفتى الذي أنشأ إمبراطورية مالية عالمية

Related Posts