dark

نعيب زماننا.. والعيب فينا..!

0
(0)

كما يعود التاجر المفلس إلى دفاتره القديمة خطر لي اليوم أن أعود أنا الاخر الى دفاتري القديمة وإن لم أفلس بعد من الأفكار. ومن نعم الله سبحانه وتعالى علي أنني مازلت أحتفظ في ذاكرتي التي تجاوزت الثمانين وبلغتها! بالكثير من الاحداث والذكريات حلوها ومرها وما بينهما من الكوامخ جمع كامخ حسب مفردات مجمع اللغة العربية العتيد.. فوجدت فيما وجدت هذا الحديث المفعم بالالم والمثير للعديد من الذكريات كتبته منذ ما يقرب من عشر سنوات.
وما دفعني الى إعادة نشره هنا هو ما أشعر به من الحزن ومن الاستغراب لأن حالنا اليوم لا يختلف كثيرا عن حالنا منذ عشر سنوات رغم انتفاضة ١٧ فبراير. فما الذي دهانا معشر الليبيين والليبيات.!؟
أعيد نشر هذا الحديث ليس بدعوى العودة للحديث عن الشأن الليبي ولكن بدعوى العودة الى حديث الذكريات.! فقط لاغير. وهذا هو ما قلته يوم ١٢ ديسمبر ٢.١٣. أي منذ ما يقرب من عشر سنوات إلا قليلا.! قلت في ذلك اليوم:
“هذه لحظة من لحظات الصدق مع النفس.
جلست وحدي بعيدا عن كل هموم الحياة. متجردا من كل عوامل المد والجزر التي قد تقيد المرأ احيانا وتجعل في فمه ماء فلا يقدر ان يقول كل ما يريد قوله . وأطلقت العنان كما يقال لعقلي المتواضع لكي يحدثني دون خجل ودون مجاملة والا يخفي شيئا مما رايت ومما علمت ومما نسيت. وحفرت في أعماقي باحثا عن كل الحقائق التي عرفتها وعن كل المواقف التي مررت بها وعن كل ما رايت وما سمعت عبر هذه السنوات الطوال من عمري.
كل ذلك لكي يكون هذا الحديث صادقا وصادما اذا لزم الامر وخالياً من الكذب والتمويه والمجاملة والمبالغة وما يسمى بالدبلوماسية.!!
ثم سالت نفسي هذا السؤال البسيط والصعب في ان واحد: ماهو السبب الحقيقي لكل ما يجري في الوطن الغالي منذ ١٧ فبراير ٢٠١١..!؟ ثم تذكرت فجأة انني لست وحدي الذي يبحث عن اجابة مقنعة ومنطقية لهذا السؤال.
ولكن اين هي هذه الإجابة !!؟؟
قفزت الى الذاكرة على الفور جملة قالهالي يوما الصديق المرحوم الاستاذ عبد الحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا الأسبق خلال احدى لقاءاتنا العديدة عبر سنوات الغربة وكنا كالعادة لا نتحدث الا عن هموم الوطن.
اذكر انه قال لي في ذلك المساء ونحن في احد فنادق مصر الجديدة في القاهرة: ”يبدو لي احيانا ان العهد الملكي في ليبيا هو الذي كان العهد الشاذ بالنسبة لليبيين.!! وان نظام الحكم الذي يناسب طبائع الليبيين هو هذا النظام الذي فرضه علينا معمر القذافي!!“.
وبقدر ما صدمتني تلك الجملة في ذلك اليوم بقدر ما أحسست بالمرارة والألم خصوصا وان قائلها مواطن ليبي من العيار الثقيل الذي يعرف ما يقول ولا يلقي الكلام على عواهنه كما يقال…
فهل كانت تلك لحظة ياس شديدة دفعته الى ان يقول ذلك بعد ان رأى الليبيين يتسابقون سراعا في تلك الأيام الى تقديم وثائق البيعة لجلادهم بعد ان كتبوها بدمائهم !!؟؟. ام كان ذلك رد فعل عشوائي من مواطن لم يخطر بباله قط ان يرى مواطنيه الذين قهرهم الطاغية وأذاقهم صنوف الذل والهوان يتسابقون لمبايعته في وثيقة يكتبونها بدمائهم بدل الحبر !!؟؟.
هل هؤلاء هم الليبيون حقاً !!؟؟. ولماذا يفعلون ذلك..!؟ وما الذي دفعهم الى القيام بذلك!!؟. هل نحن هكذا..!؟ نحب من يحتقرنا ويذلنا ويهيننا ويسيمنا سوء العذاب!!؟؟. ونكره من يوفر لنا الامن والأمان والعزة والكرامة!؟. هل نحن شعب غريب الأطوار..!؟ هل خلقنا وحدنا من طينة مختلفة دون سائر البشر!!؟؟.
لماذا نحن هكذا..!!؟؟
الم يخرج الليبيون على بكرة ابيهم كما يقال تقريبا يهتفون للانقلاب العسكري في الاول من سبتمبر عام ١٩٦٩ دون ان يعرفوا من هم ضباط الانقلاب اويعرفوا ماذا يريدون !!؟. الم تكن مظاهرات التأييد للانقلاب في جميع مدن وقرى ليبيا هي التي استمد منها الانقلابيون ما أسموه “بشرعية الثورة“!!؟؟ الم يخرج الليبيون الى الشوارع وهم يحملون أعمدة المشانق ويهتفون بضمير الغائب ذلك الهتاف المشين: “سير ولا تهتم.. صفيهم بالدم“!! وهم لا يعرفون من هم الذين يطالبون بتصفيتهم ولكنهم يعرفون انهم ليبيون! ولم يعرفوا بعد شيئا عما قيل لهم انه مؤامرة ولكنه قد يكون في الواقع محاولة جريئة لفك أسرهم!؟
الم يكن الذين يهتفون في بداية ثورة ١٧ فبراير المجيدة في ميدان الشهداء وفي باب العزيزية: “الله.. ومعمر.. وليبيا وبس.. ليبيين..!!؟؟ الم يكن الذين نصبوا المشانق في ساحات الجامعات لشنق زملائهم الطلبة ليبيين..!!؟؟ أليس الذي قال يوما انه يتمنى ان يكون حصانا يمتطيه العقيد مواطن ليبي !!؟؟…
الى غير ذلك من الأمثلة المحيرة التي تضع الكثير من علامات الاستفهام حول عقليتنا وسلوكنا نحن الليبيون والتي ربما توحي بصحة ما قاله يوما احد كبار المؤرخين الليبيين وهو استاذي الكبير وصديقي الاستاذ الدكتور المرحوم مصطفى عبدالله بعيو وزير التعليم ورئيس الجامعة الليبية الأسبق من ان الشعب الليبي يتميز بخصال سيئة ثلاث هي انه: حسود.. وحقود.. وجحود..!!؟؟.
نعوذ بالله من شرورانفسناومن سيئات أعمالنا !!. من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدا.!!
كانت ليبيا قبل انقلاب أيلول الاسود قد بدأت تأخذ طريقها نحو التنمية الحقيقية وكان مستوى التعليم فيها قد بلغ درجة عالية من التقدم في جميع المراحل وكان القطاع الخاص الليبي قد بدا في لعب دوره الفعال في خدمة الاقتصاد الوطني وأصبحت الضرائب تشكل موردا رئيسيا لدخل الدولة الى جانب النفط وأصبحت ليبيا قبلة للسياحة العالمية وكانت المسارح التاريخية في صبراته ولبدة وشحات تستقبل الفرق الفنية العالمية وكان يقام مهرجان دولي في غدامس كل عام. وكان جواز السفر الليبي يدخل معظم دول العالم دون تأشيرة وكانت التجارة والزراعة والصناعة والسياحة مزدهرة وكان لليبيين حصة الأسد فيها رغم وجود أعداد كبيرة من الجاليات الأجنبية التي ربما كان وجودها عاملا مساعدا في الازدهار الذي كان يميز ليبيا عن غيرها من الدول النامية. وكانت ليبيا اكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط في منظمة “اوبك” حيث تجاوز حجم الصادرات النفطية عند حدوث الانقلاب ثلاثة ملايين برميل في اليوم. وكان العرب هم الذين يأتون لليبيا للعلاج ولم يكن احد من الليبيين يلتمس العلاج في اي مكان خارج ليبيا الا في الحالات النادرة والمستعصية وكانت الدولة هي التي تتحمل مصاريف علاج الليبيين في الخارج . وكان الليبيون لا يكادون يغادرون ليبيا الا للمهام العامة اوالخاصة ثم يسرعون في العودة الى ارض الوطن. لم تكن هناك لا أزمة بنزين ولا كانت الكهرباء تنقطع في بيوت الليبيين. ولا كانت الأسواق خالية من المواد الأساسية.. وكان نظام المرور في المدن الليبية مضرب الأمثال.كما كانت نظافتها واناقتها محل التقدير والإعجاب من الليبيين قبل الأجانب.. وكانت هناك صحافة حرة وكانت هناك صحف مملوكة للدولة.. وكانت هناك نهضة فكرية وثقافية لم يعرفها الليبيون والليبيات من قبل.
هذا قليل من كثير مما كان في ليبيا مما لايزال يذكره ويتحسر عليه آلاف الليبيين الذين كانوا ولا يزالون شهودا عليه.!!
ومع كل ذلك لم يدافع الليبيون عن الدستور الذي كفل لهم من الحريات والضمانات ما لم يكن متوفرا لغيرهم من المواطنين العرب والذي مزقه وداسه الانقلابيون.!! ولم يدافعوا عن علم الاستقلال رمز عزتهم وكرامتهم الذي استبدله الانقلابيون بخرقة خضراء.!! ولم يحافظوا على نشيدهم الوطني الذي استبدله الانقلابيون بأغنية حماسية مستوردة.!! ولم يقفوا ضد هدم مبنى البرلمان رمز سيادتهم الوطنية عندما دكته معاول الهدم التي جاء بها الانقلابيون.!! ولم يحركوا ساكنا عندما اقدم الطاغية على هدم ضريح شيخ الشهداء عمر المختار في بنغازي وقام بهدم معلمين من معالم العاصمة طرابلس بالمتفجرات وهم ينظرون.!!
ألغى الطاغية هوية ليبيا وواستبدل اسمها بكلمة لا معنى لها هي ”الجماهيرية”.!! فصفق الليبيون.!! وأضاف لذلك الاسم كلمة اخرى لم تكن تتناسب أبدا مع الحالة السيئة التي أوصل الانقلابيون ليبيا اليها فأصبحت “الجماهيرية العظمى” ففرح الليبيون.!
قام الطاغية بذلك لا لان ليبيا وصلت الى مصاف الدول العظمى ولكن لإشباع النزوات المجنونة للطاغية الذي اصبح بعد ذلك “ملك الملوك“.!! ولكن على الحفاة العراة في مجاهل افريقيا الذين يدعون انفسهم ملوكا وهم مجرد “شيشباني” او “بوسعدية”. كما يقول الليبيون عن أمثالهم.! اما ملوك العالم المعروفين فقد كانوا يسخرون منه اكثر مما كانوا يحترمونه.!!
وغير الطاغية اسماء الشهور وألغى السنة الهجرية وغير التأريخ الميلادي.! قبل الليبيون كل ذلك ورضوا به وأدخلوه في أبجديات حياتهم.!! وحرم الطاغية الليبيين من كل شيئ تقريبا فلا صحة ولا تعليم ولا بنية تحتية ولا دستور ولا قانون ولا انتخابات ولا احزاب سياسية ولا حكومة ولا نقابات ولا صحافة ولا غذاء ولا دواء ولا كرامة وأصبحوا بفضل سياساته الحمقاء وتصرفاته الرعناء إرهابيين ومطاردين في مدن ومطارات العالم.!! ومع كل ذلك كانوا يهتفون له صباح مساء: “بالروح.. بالدم.. نفديك يا قائدنا..!!“…
ثم زادوا في هتافاتهم بعد ان انطلقت الانتفاضة من ميدان المحكمة في بنغازي: “الله ومعمر وليبيا.. وبس”!!. ثم خمدت جميع الأصوات بعد ان قتل الطاغية على يد “الثوار” ولم يتحسر عليه سوى أهل بيته وبعض المنتفعين من فساده وظلمه.
ثم تم اعلان “التحرير”.!! وهنا كشر الليبيون عن أنياب يعلم الله وحده اين كانوا يخفونها..!! فظهرت الكتائب والدروع والمليشيات واللجان الأمنية والمجالس المحلية والمجالس العسكرية على اختلاف أنواعها وكلها مدججة بالسلاح وكلها تدعي انها من “الثوار” وكلها تخطف وكلها تسجن وكلها لا تعترف بالدولة ولا تعترف بالحكومة وتفعل ما تشاء وما تريد !!.. منها من اقتحم المؤتمر الوطني العام المنتخب.. ومنها من احتل الوزارات السيادية للدولة.. ومنها من خطف رئيس الوزراء..!!.
ثم ظهرت الجماعات والكتل الدينية والسياسية التي لم يكن لليبيين عهد بها. ظهرت القاعدة.. وظهر انصار الشريعة..!! وظهرت الجماعة الاسلامية المقاتلة.. وظهر الاخوان المسلمون..!!
ثم ظهرت المطالب. فهذا يطالب بالفيدرالية.. وهذا يطالب بدسترة اللغة الامازيغية.. وهذا يطالب بانفصال الجنوب.. وهذا يطالب بالعزل السياسي.. وهذا يطالب بالمصالحة الوطنية..!!
واخيراً توقف انتاج النفط والغاز.. توقف المصدر الرئيسي لدخل الليبيين على ايدي بعض الليبيين..!!
خليط عجيب من المتناقضات في المطالب كما في المواقف!! وفوق ذلك كله بدا الليبيون يشاهدون بآم أعينهم ما كانوا يسمعونه في نشرات الاخبار مما يحدث في الصومال واليمن وأفغانستان والشيشان.. الاغتيالات.. والتفجيرات.. والسيارات المفخخة.. وهدم المساجد في بنغازي وطرابلس ودرنة وغيرها.. حتى أصبحت حياة المواطن الليبي لا قيمة لها عند هؤلاء. ولكن من هؤلاء؟ انهم ليبيون.. اجل انهم ليبيون!!.
فهل هذا هو قدر ليبيا.. ام هذا هو قدر الليبيين!؟
هذا ما أردت قوله في هذه الخلوة النادرة مع النفس لا اعتذر عنه لاحد.
وختاما أقول اذا كان هذا هو حالنا فان ثورة ١٧ فبراير ليست سوى كذبة كبرى انطلت على السذج منا. اننا في امس الحاجة الى ثورة جديدة حقيقية تعيد إلينا كل القيم التي افتقدناها منذ يوم الانقلاب المشؤوم منذ أكثر من نصف قرن.. وتعيد الليبيين الى جادة الصواب.
فأين انتم يا ثوار ليبيا الحقيقيون؟ اين انتم يا ثوار ليبيا الحقيقيون؟ أين هو الشعب الليبي الحقيقي؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ابراهيم محمد الهنقاري

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 0 / 5. عدد الأصوات: 0

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

هبة مصطفى تكتب: الفلاتر البشرية ومواجهة الشائعات

Next Post

هل تعليم التاريخ في لبنان والمجتمعات العربية أداة تحرّر؟ لماذا التاريخ ولماذا تعليم التاريخ؟

Related Posts