dark

هل تعليم التاريخ في لبنان والمجتمعات العربية أداة تحرّر؟ لماذا التاريخ ولماذا تعليم التاريخ؟

0
(0)

أنطوان مسرّه*

ان قراءتي لبعض الأبحاث في تاريخ #لبنان، بخاصة لكتب #التاريخ المدرسية في لبنان وفي المجتمعات العربية عامة، واطلاعي على أطروحات ورسائل في التاريخ، ومداولاتي مع مؤرخين، وخبرتي كعضو في لجنتي برامج “التاريخ” و”التربية المدنية” في خطة النهوض التربوي بقيادة البروفسور منير أبو عسلي في السنوات 1996-2000، تحملني على طرح تساؤلات عديدة.

1. لماذا التاريخ ولماذا تعليم التاريخ؟ التاريخ علّم له منهجياته في التقصي والتدقيق والاستكشاف. لكنه عندما يسجن نفسه في واقع الحدث فهو يتجاهل المتلقي وما يثير الحدث في علم النفس التاريخي psychologie historique من تفاعل لدى القارئ وذاكرته وتفسيره الشخصي واسقاطه في واقعه المعاش وادراكه للمستقبل.

يعني ذلك وجوب عدم اهمال علم النفس التاريخي، أي كيفية قراءة الحدث وتفسيره من المتلقي وتفاعله مع ذاكرته وفي بيئته وأوضاعه وسلوكه في الحاضر والمستقبل. لا يعني ذلك اجراء عملية تجميلية لأي حدث cosmétique، مما يتنافى مع المنهجية العلمية وعلم التاريخ، بل وضع كل حدث في أوضاع وظروف المكان والزمان وذهنيات الزمان contextualiser تجنبًا لاسقاطات وتفسيرات من المتلقي وتجنبًا في اغراق المجتمع في آلية التكرار وبالتالي التخلف. الشعوب المتخلفة هي التي تتعلم دائمًا في التاريخ وليس من التاريخ! ينطبق ذلك تمامًا على أحداث 1860 في لبنان وعلى قضايا عديدة أخرى ومنها اعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 وحروب 1975-1990 في حال عدم موضعتها في ذهنيات زمانها ومكانها وتجاهل علم النفس التاريخي.
عندما أقرأ بعض المؤلفات التاريخية في لبنان وفي المجتمعات العربية يبدو لي انها مجرد بحث تاريخي لاصدار كتاب أو مناقشة رسالة أو أطروحة جامعية أو لمجرد تغذية فضول معرفي. بعض الأبحاث الريادية في التاريخ هي أقرب الى علم الفيزياء! لا يثير هذا النوع من الدراسات التاريخية في لبنان وفي المجتمعات العربية أي تساؤل أو اغناء في الحياة العامة وفي حياة المتلقي وتقدم المجتمع! هل الغوص في الهدف الإنساني لأي معرفة مناقض للمنهجية العلمية؟
يسعى مؤرخون، تجنبًا لحساسيات وتأويلات ونزاعات، الى عدم طرح قضايا شائكة ما يزال يعيشها مواطنون في ذاكرتهم. يكتب بالتالي مؤرخون، بخاصة في مؤلفات مدرسية، تاريخًا معقمًا aseptisé حيث ترد معلومات لا طعم لها ولا مذاق ولا تثير أي تساؤل أو فضول. يحفظها التلميذ في كتاب مدرسي لمجرد تفريغها في امتحان ويكتسب ذاكرته في العائلة والحي والشارع…! ما فائدة أي تاريخ مُعقم! مجرد أحداث وسرد وحفظ… بلا معنى! هل علم التاريخ شبيه تمامًا بعلم الفيزياء؟ ليس التاريخ أساسًا علم احداث الماضي بل تاريخ الانسان في الزمن الطويل.

2. البحث عن السببية والأسباب: ما هي أسباب أحداث 1860؟ وما هي أسباب أزمة 1958؟ وما هي أسباب حروب 1975-1990؟ هذا هو الهاجس الأكبر لدى مؤرخين في لبنان وفي المجتمعات العربية عامة. يندرج البحث في الأسباب في التحليل السياسي، وليس أساسًا في البحث التاريخي!
في ما يتعلق بأحداث 1860 يوجب البحث التاريخي أساسًا وصف ما حدث: قتل ودمار وتأثير على حياة الناس… اما السببية فتندرج في مستوى آخر في التحليل وتقتصر غالبًا على توثيق قد يكون غير مكتمل. وقد يكون البحث في الأسباب وسيلة لتبرير ما حصل وتوزيع تهم واتهامات! ان البحث عن الأسباب هو سعي بشري للتملص من مأساة الواقع. هل تبرّر السببية الحرب العالمية الأولى؟ وهل تبرّر الحرب العالمية الثانية؟ وهل تبرّر السببية احتلال أوكرانيا؟ لدى أي زوجين منسجمين منذ أكثر من نصف قرن أسباب وأسباب يوميًا في النزاع! ليس البحث عن السببية في العلاقات الانسانية بريئًا. انه غالبًا اتهامًا أو تبريرًا!
ليس الموضوع الأساسي في التاريخ البحث عن السببية، بل البحث عن الأوضاع وتفاعلاتها وانطلاقًا من العلاقات الانسانية ومن منظور انساني. ان أحداث 1860 كارثية أيًا كانت السببية! وحروب1975-1990 كارثية أيًا كانت الأسباب وتبريراتها السياسية. والحرب العالمية الأولى وغيرها كارثية أي كانت السببية! أيًا كانت الأسباب، الواجب الإنساني تجنب الكوارث وبناء المناعة بكل الوسائل والعمل الحثيث لممارسة الافراد والقيادات والمجتمعات مسؤولياتها.
في فيلم المخرج السويسري Lorn Thyssen بعنوان: الدهليز Labyrinth الذي عُرض في بيروت سنة 2004 وهو يتعلق ببعض مراحل الحروب في لبنان في 1975-1990 يظهر بطل الفيلم، وهو جامعي أجنبي يريد التعرف ميدانيًا على مجريات الحروب في لبنان. يُمسك امام مجموعة من المستمعين منفضة على مكتبه ويفسّر: “البعض يقول ان هذه المنفضة مؤامرة صهيونية، وآخرون يقولون انها مؤامرة اميركية…” يسأله أحد الحاضرين: وأنت ماذا تقول؟ يجيب: أنا أقول انها منفضة! وتقع المنفضة من بين يديه وتندثر قطعًا مبعثرة! يعني المخرج بذلك انه أيًا كانت التفسيرات والتحليلات والاجتهادات والمواقف والمواقع والسببية… فأنتم كلكم مُهددون وتتلهون بالتفسيرات! المحزن ان أكثر المشاهدين اللبنانيين لم يدركوا المغزى! ان لبنان كان دائمًا فخًا لكل المتداخلين في حروبه المركبة الداخلية والخارجية. يكتب السفير هشام حمدان:

“تفجير المرفأ جزء من الحروب والصراعات المستمرة على أرض لبنان لا تحمّلوا وزرها للشعب اللبناني (…) قياداتنا الباقية تم تطويعها لخدمة السياسات الخارجية” (ملتقى متحدون من أجل العدالة للبنان وشعبه، بيروت، 2020، 272 ص).

هل من العلمية في التأريخ التركيز على الأسباب والمسببات الخارجية مع تجاهل مساهمة لبنانيين في خرق الدستور والسيادة؟ ليس المطلوب التبرئة ولا الاتهام، لأن المؤرخ ليس قاضيًا، بل كتابة تاريخ لبنان واللبنانيين أولاً… أما التاريخ الدبلوماسي بشأن لبنان فهو غالبًا هروب من مواجهة تاريخ لبنان واللبنانيين بكل اخفاقاته ومعاناته وانجازاته المشتركة.
ان التركيز على التحليل الدبلوماسي حول دور القوى الإقليمية والدولية في الشأن اللبناني هو الذي ينمي في الادراك الجماعي أولاً: عقدة الباب العالي واستمراريتها في علم النفس التاريخي، وثانيًا: الاعتماد على الباب العالي والانتظار بدلاً من التماسك الداخلي وكأنه لا يوجد تاريخ اللبنانيين بل تاريخ الدول العظمى في الشأن اللبناني! التاريخ الدبلوماسي في الشأن اللبناني هو تاريخ مُتخصص ومشروع ولا يندرج في تاريخ اللبنانيين وحياتهم.

3. الكلفة والمنافع: Cost and benefit أي مؤرخون محاسبون: في أكثر الكتابات حول أحداث 1860 اهمال اللجنة الدولية التي وضعت تقريرًا حول آثار أحداث 1860! ويتبارى كتّاب في تباينهم حول أسباب الحروب في لبنان في 1975-1990. تصاب بغشيان في خلط الأسباب بعضها ببعض، الداخلية والإقليمية والدولية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية والدستورية…!
التاريخ العلمي حقًا هو وصف المأساة، وليس التركيز على السببية! تعددت الأسباب والمصيبة واحدة على الجميع! نعني بالكلفة الضحايا الذين هم غالبًا كانوا منسيين في التاريخ العالمي. ما زالوا منسيين غالبًا في التاريخ اللبناني والعربي. يُنقل عن تقي الدين الصلح في بداية حروب 1975-1990 في اجتماع له مع هيئة تنسيق عسكري حيث سأله أحدهم: أنت تمثل أي قوة مسلحة؟ أجاب: أنا أمثّل المقتولين! لكل مأساة طبعًا كلفة أخرى ايجابية في الشهداء المدافعين عن الاستقلال والسيادة والحريات. انهم يشكلون أمثولة لما يعيشه مواطنون بعدهم بفضل نضالهم في سيادة وديمقراطية راسخة.

4. التاريخ العام والتواريخ المتخصصة: هل ندرك مخاطر دمج كل مستويات التاريخ بعضها ببعض؟ في سرد أحداث لدى مؤرخين وفي مؤلفات حول هذه الأحداث خليط من الوقائع والتحليلات الاجتماعية والاقتصادية والطائفية والدبلوماسية والدستورية…! لكل مستوى في هذه الشؤون منهجيته في التشخيص والتحليل.
كل حدث سياسي هو أساسًا كلي phénomène total، حيث تتفاعل المعطيات. هل يدرك الباحث ان الخلط بين كل المعطيات سعيًا الى الشمولية له تأثير سلبي بالغ الخطورة في علم النفس التاريخي في سبيل اكتساب القارئ فكرًا سياسيًا نيرًا؟ ما نشاهده في برامج متلفزة وسجالات أيديولوجية وأحاديث صالونات هو خلط بين الدستور والطبقة السياسية والأوضاع الدستورية والاقتصادية والإقليمية والدولية… بدون التركيز على أي موضوع في سبيل الفهم والتحليل والمعالجة والعمل المواطني الفاعل.
أطرح غالبًا السؤال على نفسي في بعض البرامج المتلفزة: ما هو الموضوع؟ لا موضوع، بل مواضيع متداخلة ومتشابكة! طبعًا هناك حالات مرضية متشابكة، ولكن لكل ظاهرة منهجية في التشخيص ومنهجيتها في المعالجة. تطرح الاشكالية بشكل خاص في تعليم التاريخ في المرحلة ما قبل الجامعية حيث الأساس هو التاريخ العام وتاريخ اللبنانيين بدون الإغراق في تواريخ مُتخصصة دبلوماسية ودولية.

5. أداة تحرر أم آلية تكرار: ان كتابة التاريخ بدون هدفية تربوية خلف ستار الموضوعية ومع تجاهل علم النفس التاريخي يغذي الموروثات السلبية في ذاكرات صدامية ومشتتة تنقلها البيئة الاجتماعية والتعبئة السياسية النزاعية والخبرات السلبية في تاريخ الشعوب، مع اهمال الإخفاقات والمعاناة والإنجازات والنضالات المشتركة.
ليس التاريخ اللبناني والعربي عامة كما يُنقل في المدارس والجامعات أداة تحرر! هل التاريخ لمجرد المعرفة أم للتعلّم؟ وتعلّم ماذا؟ عندما يبحث مؤرخ في التاريخ بدون هدف سوى المعرفة فالعلم بالنسبة اليه هو مجرد تسلية! وعندما يفتقر المؤرخ الى الهدف الإنساني (ولا نقول التحزب) فهو يخفي من خلال استقصائه خلفية عقائدية مبطّنة وايديولوجيات هو مدافع عنها أو منقولة إليه في تربيته وذاكرته من خلال وسائل التنشئة.
تشبه مبارزات مؤرخين وكتّاب عامة حول أحداث 1860 وإعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 وحروب 1975-1990… حالة زوجين يريدان الطلاق. يتبارزان في عرض الأسباب والمسببات… في حين أن أولادهم مشردون وضحايا ومجهولو المصير! القاضي الإنساني العادل يتوقف ويتعمّق وينكب على الحالة والمأساة!
***
تنطلق برامج التاريخ للمرحلة ما قبل الجامعية التي وضعت في اطار خطة النهوض التربوي بقيادة البروفسور منير أبو عسلي في السنوات 1996-2000 والتي صدرت في الجريدة الرسمية بموافقة اجماعية من مجلس الوزراء ودعم كل المؤسسات التربوية وعطّل تطبيقها بعدئذ أحد وزراء التربية وقوى الاحتلال لحجة وليس لسبب، تنطلق من كون التاريخ من العلوم الإنسانية. وتنطلق أيضًا من منهجية تربوية سقراطية socratique في المشاركة مع التلامذة والتفاعل واكتساب قناعة ذاتية (الجريدة الرسمية، المرسوم رقم 3175 تاريخ 8/6/2000، عدد 27، تاريخ 22/6/2000، ص 2114-2195). الحاجة الى احياء هذه الخطة بكامل مضامينها وروحيتها وباشراف قيادات واعية في سبيل سلم أهلي ثابت وذاكرة جماعية مشتركة ومناعة وطنية.

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 0 / 5. عدد الأصوات: 0

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

نعيب زماننا.. والعيب فينا..!

Next Post

هيئة البريد تصدر طابع بريد تذكاريًّا بمناسبة الاحتفال بالعيد القومى لـ"البحيرة"

Related Posts