dark

رييل ستوري | مارتن لوثر.. راهب ألماني رفض صكوك الغفران وأسس البروتستانتية

5
(1)

راهب أوغسطيني ولد عام 1482م، أسست إصلاحاته للجغرافيا السياسية الأوروبية الحالية، وقاد أكبر تحول على الإطلاق في تاريخ الكنيسة الغربية، وأسس البروتستانتية التي يعتنقها 500 مليون مسيحي بمختلف أرجاء المعمورة، وتشكل أهم ركائز السياسة في كبرى دول العالم، ويرى فيه الألمان أبا لقوميتهم وصاحب المشروع الأول في بروز الألمانية لغة أدبية.

المولد والنشأة

ولد مارتن هانز لوثر في مدينة إيسليبن بمقاطعة تورينغن وسط ألمانيا يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1482م، لعائلة ريفية وأب طموح اختار العمل في قطاع مناجم النحاس حتى ملك عددا من مسابكها.

وعلى نمط الحياة الكاثوليكية عمّد والدا مارتن طفلهما في كنيسة القديس بطرس مبكرا، وسمي “مارتن” لأنه ولد في ليلة عيد مارتن التوروزي، أحد أشهر القديسين في بلاد الغال (توفي في نوفمبر/تشرين الثاني 397 م).

تتحدث جملة من الكتابات اللوثرية عن طفولة منعمة عاشها مارتن وسط عائلة برجوازية مترفة وأب من رجال الصناعة والثراء وأم من ذوات الأملاك والثروات، بينما تصوره كتابات أخرى طفلا مليئا بالعقد والتناقضات بسبب حالة بؤس وفقر وحرمان وقلق وحزن وعدم يقين وخوف من كل شيء، مع نظرة تشاؤمية سيطرت عليه وقسوة وعنف مفرط تعرض لهما في البيت والمدرسة، والشقاء في أحضان أم مسكونة بالخوف من الأرواح الشريرة والحسد والسحر.

كما تتحدث بعض الروايات عن أنه مارس التسول حتى الاحتراف، وأورثه ذلك الجبن والتردد والنظر إلى المسيح من جهة الدينونة كقاض قاس مخيف مرعب.

التكوين العلمي والتربية الدينية

دفع هانز ولده وهو في السابعة من عمره إلى مدرسة مدينة مانسفيلد التي تعلم فيها قواعد اللغة اللاتينية والوصايا العشر وبعض الترانيم والصلوات وقوانين الإيمان والخطابة والمنطق والتاريخ. كما عرف أثناء دراسته قبل الجامعية تعاليم عن الزهد والتقشف والتواضع والرهبنة، وأكمل دراسته الثانوية بتفوق وهو في الـ18 من عمره.

في مايو/أيار1501م التحق مارتن بجامعة إيرفورت، وفيها درس الفلسفة على الأستاذ بودوكوس، كما درس قواعد اللغة والمنطق والفلك والهندسة وعلوم ما وراء الطبيعة والموسيقى والتاريخ والفلسفة، وكانت فلسفة أرسطو تسيطر على هذه العلوم والعلوم اللاهوتية، واطلع على كتابات توما الأكويني وسكوتس وبونا فنتيرا وآخرين.

وقد أحرز تفوقا كبيرا وجاء ترتيبه الثاني بين 17 طالبا، وكرمته الجامعة في احتفال مشهود، وقبلته لدراسة الحقوق ليحقق حلم أبيه، كما ظهر نهمه للمعرفة ونبوغه في فنونها حتى لقبه أصدقاؤه بـ”مارتن الفيلسوف”.

Monument of Martin Luther. It was the first public monument of the reformer, designed 1821 by J. G. Schadow, Wittenberg. Luther was a monk, theologian and the translator of the bible into German.
نصب تذكاري لمارتن لوثر (شترستوك)

حياة الرهبنة

في 2 يوليو/تموز 1505م كان مارتن لوثر على موعد مع حدث غيَّر مسار حياته، إذ تعرض لعاصفة شديدة هزت الفضاء كله من حوله، وشعر بالموت يحيط به من كل جانب حين سقطت شجرة أمامه من شدة الرياح، فصرخ “يا قديسة حنة إذا أنقذتني فسأصبح راهبا بقية حياتي”.

وحنة هي أم مريم العذراء التي ذكرها القرآن الكريم في سورة آل عمران وأمسكت عنها أسفار العهد الجديد من أناجيل ورسائل، ولم ترد إلا في أسفار قانونية من الدرجة الثانية تسمى الأبوكريفا، وتحديدا في رسالة يعقوب.

دخل مارتن دير الأوغسطينيين في إيرفورت واختاره من بين 20 ديرا لصرامة نظامه، فكان عليه الاستيقاظ كل يوم في الواحدة صباحا والصلاة 7 مرات يوميا والاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم، ومقاطعة اللحم والجبن والزبدة والبيض نصف العام، ومع الصيام والسهر لا بد من إذلال النفس وإلزامها التواضع بالعمل المهين في التنظيف.

انكب لوثر على عمل الدير ورياضته بحماس من لا يهمه إلا إماتة الجسد لإحياء الروح والتخلص من المخاوف والهواجس من أجل الوصول إلى حالة سلام نفسي، لكنه رفض رياضة التسول التي كان أهل الدير يمارسونها، فقد أعفي منها ككل جامعي يلتحق بحياة الأديرة.

كان في قوانين الكنيسة ما يعفي مارتن من الاستمرار، إذ كان يستطيع في فترة الاختبار أن يراجع نفسه، لكنه بقي حتى قرر الدير في أبريل/نيسان 1507م سيامته كاهنا يستطيع أن يقود القداس ويرعى معجزة بتحويل الخبز والخمر إلى جسد الرب حسب الاعتقاد الكاثوليكي.

وفي الدير التقى مارتن لوثر مع معلمه ومرشده الروحي ستوبينز، وكان نائبا عاما لجميع الأديرة الأوغسطينية في ألمانيا، وكان له أثر كبير في حياة لوثر، خاصة في الجانب الروحي، فقد أرشده وخلصه من التصور الذي تسبب له في شقاء كبير حتى وهو في الدير.

رحلة روما

ومع القلق والاضطراب الذي لاحظه ستوبينز في لوثر وجد المعلم في فتاه الذكاء والعقل النشط والذهن المتقد، فأخذه إلى كلية اللاهوت بجامعة فيتمبرغ لتدريس فلسفة أرسطو عام 1509م.

وفي خريف 1510م طلب الأستاذ ستوبينز من مارتن أن يذهب إلى روما لرفع شكوى من وجود بعض الاختلافات في الأديرة الأوغسطينية بشأن اتحادها في جمعية واحدة.

فرح لوثر بهذه الفرصة التي تأخذه إلى مكان مقدس يعيش فيه البابا -وكيل المسيح على الأرض وخليفة القديس بطرس- وكان حلمه أن يجد خلاصه وراحته في البقعة التي تحتفظ بآثار القديسين وذخائرهم، فأخذ يختلف إلى الكنائس والمقابر والأماكن المقدسة يطلب تحصيل أكبر عدد من الغفرانات.

ولكنه وجد شيئا آخر، وجد صورا ومشاهد تضعه في حيرة أمام تساؤلات ومراجعات، رأى ما يعيش فيه الرهبان ورجال الأكليروس من بذخ ورفاهية، وترفل الكهنة في النعيم وكأنهم حكام وأمراء وليسوا معلمين ومبشرين وخداما للكنيسة.

كما رأى بعض الرسوم التي لا يستريح لها العقل والقلب، فمن أقام قديسا في كنيسة يوحنا تخرج روح أمه من المطهر وتستريح من عذابه، ولكنه فعل ذلك وهو يعتقد أن أمه لن تنال هذه النتيجة لأنها ما زالت بين الأحياء، وأمام كنيسة روما صعد 98 درجة على السلم المقدس الذي قيل إن المسيح صعده للمثول أمام بيلاطس، ولكن أمه وأباه لم ينلهما شيء مما كان متوقعا.

Dr Martin Luther, 1483-1546. full-length portrait, standing, facing slightly left, reading in church. (Photo by: Universal History Archive/UIG via Getty images)
في الدير التقى مارتن لوثر مع معلمه ومرشده الروحي ستوبينز (غيتي)

صكوك الغفران وذخائر القديسين

كانت الممارسات في بيع صكوك الغفران هي أكثر ما استفز مارتن، وهي فكرة في الكنيسة الكاثوليكية، وهي عادة تعود إلى قرون مضت قبل رحلة روما، فقد رأى بعض منظري الكنيسة أن القديسين قاموا بأعمال صالحة تكفي لخلاصهم وتزيد على حاجتهم، ورأوا أن هذه الأعمال الفائضة يمكن بمقتضى العدالة أن تحفظ في خزائن الكنيسة لتمنحها لمن يحتاجون إليها بطلبهم في صورة صكوك غفران.

وقد كتب في هذا بعض من الأعلام مثل توما الأكويني والقديس بونافانتير، ومنحت الكنيسة عددا كبيرا من هذه الصكوك لمن تطوعوا في الحروب الصليبية على مدى نحو قرنين بين 1096م و1291م.

ويلحق بذلك عقيدة زيارة ذخائر القديسين، فقد منح بعض البابوات في روما غفرانات لمن يزور بقايا القديسين وبعض أمتعتهم في أماكنها، ولهذا اجتهد الملك فريدريك ساكس في جمع أكبر عدد من ذخائر القديسين في رحلته إلى أورشليم (القدس) عام 1493م، كان منها أحد أسنان القديس جيروم، و4 أجزاء من جسد يوحنا ذهبي الفم و4 خصلات من شعر العذراء مريم، وقطعة من لفائف يسوع.

وفي عام 1509م بلغ عدد ذخائر القديسين في روما نحو 50 ألف قطعة، وفي سنة 1518م وصل عدد الذخائر إلى ما يكفي للإعفاء من المطهر لمدة 127799 سنة، وقد استخدمت الكنيسة هذه الثروة الكبيرة كلما احتاجت إلى جمع المال.

عاد لوثر من رحلته بتساؤلات كثيرة دفعته إلى مراجعات وتأملات حتى وصل إلى فكرة “بر الله”، فصكوك الغفران ليست طريقا للخلاص، بل الأعمال الصالحة نفسها هي مجرد وسيلة إلى تحصيل الإيمان الذي يُعطى الخلاصُ مكافأة عليه، وتطورت هذه الفكرة حتى أصبحت بعد ذلك من الأركان الأساسية في العقيدة البروتستانتية.

معركة صكوك الغفران

في 1513م جلس على كرسي بطرس في كنيسة روما البابا ليون العاشر، ولما نظر في كنيسة بطرس وجد أنها غير صالحة للترميم وأنه لا بد من بنائها من جديد، فقرر عام 1517م إصدار صكوك غفران لكل من يسهم في البناء المقدس، وبعث رسله في كل اتجاه من مقاطعات أوروبا.

ومع سيل الأموال المتدفق إلى روما احتج الحكام الإنجليز والإسبان والفرنسيون والألمان حين رأوا حملات صكوك الغفران تستنزف أموالهم وتعرض اقتصاداتهم للخطر من أجل روما، ولتهدئة غضب هؤلاء الملوك دخل البابا في مساومات معهم، وكان الألمان الأقل حظا في عروضه لأنهم لم يجتمعوا في ملكية قوية كغيرهم.

رفضت بعض الولايات الألمانية مشروع البابا، وأصبحت هذه القضية تشغل بال مارتن لوثر، فقد وعظ ضدها في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1516م، كما ألقى موعظة في ربيع 1517م قال فيها إن التوبة هي رفض صكوك الغفران، معترضا على أن يتم الغفران بمعزل عن الأعمال الصالحة وبمجرد دفع الأموال للكنيسة دون اعتراف بالذنب.

في هذا الوقت كان الكاهن الدومينيكاني يوحنا تتزل ينشط بين الولايات الألمانية للدعاية لصكوك الغفران، ويجمع العامة ويصمم مشاهد تمثيلية عن المطهر والجحيم، فيخرج المال من الفقراء بضغط من الوعيد بسوء المصير ووحشة المآل الذي يعيش فيه أقرباؤهم بعد الموت.

وإذ رفضت صكوك الغفران في الولايات التي كانت خارج سيطرة ألبرت أسقف ماينز الحليف الألماني للبابا، فإن العامة الخائفين من المصير الموحش المشفقين على أسلافهم كانوا يخرجون من ولايات فيتمبرغ وساكس ويعبرون الحدود ليشتروا الصكوك.

(Eingeschränkte Rechte für bestimmte redaktionelle Kunden in Deutschland. Limited rights for specific editorial clients in Germany.) Luther, Martin - Priest, Reformer, D *10.11.1483-18.02.1546+ - Portrait, steel engraving (book illustration) - undated, about 1520 Vintage property of ullstein bild (Photo by ullstein bild/ullstein bild via Getty Images)
مارتن لوثر أحد الإصلاحيين في عصر النهضة في أوروبا (غيتي)

تعرضت قضايا الاعتقاد للاضطراب والفوضى، وكان الناس لا يكملون الاستماع لعظات تتزل، فيخرجون المال لشراء الصكوك ضاحكين، وإزاء ذلك زاد غضب أمراء الولايات التي ترفض صفقة بابا روما وأسقف ماينز، كما تصاعد غضب مارتن حتى اندفع في ليلة احتفال بعيد جميع القديسين في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1518م، فعلق ورقة تضمنت 95 اعتراضا باللغة اللاتينية على باب كنيسة جميع القديسين في فايتبرغ.

اختيار اللغة والمكان يشير إلى أن لوثر كان يريد أن يخاطب باعتراضاته الأكليروس لا العامة، ولكن ألبرت لم يبال بالاعتراضات، واكتفى بإرسالها إلى بابا روما دون الدخول في نقاش مع كاتبها.

لم يكن أسقف ماينز ولا لوثر نفسه يتوقعان ما آلت إليه الأمور، فقد حمل طلبة الدكتور مارتن الاعتراضات إلى غرفهم وأخذوا يترجمونها إلى الألمانية، ولأن المطبعة كانت اختراعا جديدا مدهشا في ذلك العصر، فقد انتشرت الاعتراضات بجميع الولايات الألمانية والمناطق المجاورة، وأصبحت حديث الناس في كل واد وناد.

لاحت نذر المعركة القادمة، فالاعتراضات على احتجاجات لوثر شغلت الأكليروس في أكثر من مكان، فطلب تتزل من أساتذة جامعة فرانكفورت دراستها، فأعلنوا أنها تحتوي على 116 خطأ اعتقاديا، فرفع تقرير لبابا روما بأن لوثر هرطوق تجب محاكمته.

كما صدر تقرير يتهم لوثر بأنه يقول إن السلطة الكنسية غير معصومة وإن على المسيحي أن يرجع مباشرة إلى الكتاب المقدس ويعول بنفسه على الروح القدس، كما ارتفعت أصوات وعاظ دير فرانكفورت بضرورة بيع صكوك الغفران وحرق مارتن لوثر.

حاول لوثر تهدئة الموقف لكن الصراع بلغ أوجه حين حرق تتزل بنفسه الاعتراضات الـ95 أمام الناس، فرد عليه طلبة الدكتور مارتن بحرق صكوك الغفران.

تنامى الجدل والصراع في اتجاهات متضادة، فمارتن لوثر من جهته يشرح تعاليمه في دروس الجامعة وعظات الكنائس، وخصومه في الداخل والخارج يصعدون ضده بما يوسع الهوة بين روما من جهة والإمارات الألمانية قيادة وجماهير من جهة.

ولوثر يشرح لمجمع الرهبان فلا يفوز بتعاطف الدومينيكان أتباع توما الأكويني، ولكنه يكسب مزيدا من الطلاب والمؤيدين الشباب ثم يرسل كتابا إلى البابا يشرح فيه رأيه ويعلن ولاءه حتى يقول “إنني أقبل صوتكم كما لو كان صوت المسيح”.

ولكن مسؤول الشؤون القانونية في روما يقولها صراحة: إن من ينكر على الكنيسة التصرف في صكوك الغفران يعتبر هرطوقا، فيصدر البابا أمرا بمثول مارتن لوثر في روما لمحاكمته.

القومية الألمانية

رفض مارتن لوثر أن يحاكم في روما، فكتب في ذلك إلى حامية الملك فريدريك حاكم ساكسونيا.

وهنا تحولت القضية إلى مسألة قومية حين رفض الملك فريدريك الملقب بالحكيم أن يحاكم مارتن خارج ألمانيا، ثم حاول إقناع الإمبراطور ماكسمليان بذلك وبالاكتفاء بمناظرة في أغسبورغ، فالجماهير الألمانية تقرأ كتابات مارتن لوثر بنهم، وترى فيها انعتاقا من سيطرة روما على الأموال باسم صكوك الغفران، والقادة الألمان يرون في كتابات لوثر وتفاعل الجماهير معها فرصة للإحياء القومي، أما روما فتعمل بكل ما استطاعت لوأد التجربة وفرض سيطرتها، فاحتد النزاع ورفض فريدريك الحكيم تسليم لوثر ولم يكظم غيظه في وجه ممثل روما وقال إنه لا يحتاج إلى من يذكره بواجبه كمسيحي.

ثم أتى خبر وفاة الإمبراطور ماكسيمليان في 11 يناير/كانون الثاني 1519م ليكون بمنزلة هدنة وفرصة للوثر والزعماء الألمان في كسب قوة أكبر من مساندة الجماهير في بداية عهد الإمبراطور الجديد شارل الخامس.

فصنف مارتن لوثر كتيبا بعنوان “إلى الأمة المسيحية الألمانية النبيلة” ويقول فيه: “مضى وقت الصمت وجاء وقت الكلام”، ودعا الألمان إلى أن ينفضوا عن كاهلهم التدخل الأجنبي في شؤونهم، وحين خرج الكتيب باللغة الألمانية في أغسطس/آب 1520م تخطفه القراء حتى نفدت 5000 نسخة في 6 أيام.

(Eingeschränkte Rechte für bestimmte redaktionelle Kunden in Deutschland. Limited rights for specific editorial clients in Germany.) Luther, Martin - Priest, Reformer, D *10.11.1483-18.02.1546+ - Portrait in his room on the Wartburg - undated, about 1930 Vintage property of ullstein bild (Photo by ullstein bild/ullstein bild via Getty Images)
رحل مارتن لوثر وترك خلفه مذهبا مسيحيا جديدا يعتنقه الآن أكثر من 500 مليون حول العالم (غيتي)

إعلان مارتن لوثر هرطوقا

وعندها أصدر بابا روما مرسوما يهدد فيه لوثر وكل أتباعه بالحرمان، فرد لوثر بدعوة الأساتذة في جامعة فيتمبرغ والأصدقاء والطلاب، ثم أوقد نارا كبيرة، وأحرق أمام الجميع كتب القانون الكنسي ومرسوم البابا، ليعلن بذلك استقلاله عن الكنيسة الكاثوليكية، وعندما بلغ البابا الخبر أصدر بالفعل في 3 يناير/كانون الثاني 1521م أمرا بالحرمان على لوثر وأتباعه ليعلنه بذلك هرطوقا خارجا عن كنيسة روما.

كان هذا الإعلان يعني أن مارتن لوثر سيحاكم ليلقى مصير سلفه يوحنا هس بالحرق، لكن مساعي فريدريك الحكيم نجحت في إقناع الإمبرطور الجديد شارل الخامس بمحاكمة لوثر في فورمس أمام الدايت الألماني لا في روما.

وفي 2 أبريل/نيسان 1521م بدأ لوثر رحلته إلى فورمس، وفي طريقه خرجت الجماهير وخطب في كل مدينة واحتشدت حول قضيته أمة ترى فيه خلاصها، مما جعل التحدي كبيرا أمام الإمبراطور شارل الخامس الذي حضر المحاكمة، وأيقن أن سفك دم لوثر باب لفتنة عارمة تهدد حكمه في بداياته.

وهذا ما أكده لوثر في دفاعه أمام جلسة كانت تحيط بقاعتها الجماهير الألمانية، لم يتراجع مارتن لوثر عن تمسكه بالاحتكام فقط إلى الكتب المقدسة وشجبه ظلم البابوية، وبعد المحاكمة أصدر الإمبراطور صك أمان محدد المدة لمارتن لوثر، على أن يحاكم بعدها وينكل به وبأتباعه.

بدا الأمر الإمبراطوري صارما ومرضيا للبابا لكنه ألمح إلى شيء خطير فهمه فريدريك فتصرف بحكمته، وأثناء عودة لوثر إلى فيتمبرغ اعترض عربته 5 فرسان وخطفوه واختفى وسط الغابات الكثيفة، وشاع الخبر حتى رثاه أتباعه وبكوه وتضرعوا إلى الله أن يهبهم راهبا مثله يكمل مسيرته.

بين ظلام الأشجار الكثيفة مكث الراهب الأوغسطيني مارتن لوثر في قلعة الفارتبوغ باسم الفارس جورج، فطالت لحيته ونبت شعر رأسه على غير عادة الكهنة الكاثوليك في عصره، مختفيا في ملابس الفرسان، وفي معتكفه كتب عظات على عدد آحاد السنة وأعيادها باللغة الألمانية، وبالروح الإنجيلية الثائرة الصاعدة، إضافة إلى العظات والرسائل التي تشرح الفكر الإصلاحي، ثم جاء العمل الذي كان له الأثر الأكبر في تطور الفكر الإنجيلي، وهو ترجمة لوثر للعهد الجديد إلى اللغة الألمانية.

عواصف التغيير

لكن في خارج القلعة كانت عواصف الثورة ورياح التغيير تجتاح كل المقاطعات الألمانية مصحوبة بالروح القومية، فالقداس يقام باللغة الألمانية، والرهبان يتزوجون، والصور والتماثيل تنزع من الكنائس الكاثوليكية، والملابس الكهنوتية تختفي، والجماهير تخرج منادية بالحكم الديمقراطي، حتى إن لوثر نفسه فوجئ بهذه الأمواج العاتية، فخشي أن تأكل كل شيء، ثم كتب الرسائل للتهدئة، ولم ير بدا من الخروج إلى فيتمبرغ في بداية مارس/آذار 1522م.

كانت كتابات مارتن لوثر تنتشر انتشار النار في الهشيم، إذ إن أحد كتبه نفدت منه 40 ألف نسخة في 6 أيام، كانت دعوة لوثر إلى حرية المسيحي تطرب وجدان الفلاحين الذين يرغبون بقوة في التحرر من عشور الأمراء والكنيسة، وكانوا يدعمون أفكارهم بأدلة من الكتاب المقدس الذي ترجمه لوثر إلى الألمانية بأسلوب سهل.

اتخذ التغيير شكل ثورة سياسية واقتصادية وقومية، كما كانت التغييرات الفقهية أيضا تأخذ شكلا ثوريا برمزيتها في تحدي كنيسة روما، فالرهبان يرغمون على ترك أديرتهم، والأطفال يمنعون من التعميد بالقوة، هال هذا الاندفاع مارتن لوثر نفسه فأصبح يكافح في اتجاهات بين الثورة على كنيسة روما والجهود في تهدئة رفاقه أمثال كارلستادت وتوما وكلاريوس ومقاومة دعوتهم إلى التغيير الجذري والعنيف والسريع، وفي هذا الوقت مات ملك ساكسونيا فريدريك الحكيم، في 5 مايو/أيار 1525م في غياب راهبه المحبوب المكدود.

ثورة الفلاحين

تنامت الروح القومية عند الألمان وتعاظم شعور الفلاحين بالظلم وزادت الحماسة بكتابات مارتن لوثر الثائرة على الأمراء والكنيسة الكاثوليكية حتى قال لهم “إن طغيانكم لم يعد يحتمل، واشمئزاز الشعب منكم بلغ المدى”، واستعر أوار النيران المتقدة في عظات رفاقه، كل هذا أشعل ثورة كبيرة انقلبت إلى حرب أهلية خطيرة، فالفلاحون يدمرون القصور والحصون، وقادتهم الروحيون يقولون “لا حياة كريمة لكم إذا بقي واحد من هؤلاء الأمراء على قيد الحياة”.

ومرة أخرى فزع من الاندفاع المدمر إلى العنف، فقال للأمراء “قاتلوا هؤلاء الفلاحين ككلاب مسعورة”، واجتمع الأمراء بعد استسلام، ونظموا صفوفهم، واستأجروا المقاتلين الإيطاليين والإسبان، وعملوا في الفلاحين قتلا بطرق بشعة وسحقوهم بأساليب مروعة، وأسقط مرة ثانية في يد لوثر، فندم على تصريحه ضد الفلاحين الذين كان هو من أثارهم، ولكن بعد فوات الأوان، لقد خاب ظن الجماهير فيه بعدما كرهوا الظالمين الذين ثاروا معه عليهم.

لم تهدأ هذه الثورة ولم تضع الحرب الأهلية أوزارها حتى كان عدد كبير من الكنائس في ألمانيا قد قبلت المبادئ اللوثرية، وأصبح لوثر زعيما قوميا يؤمن به الشعب ويهابه الأمراء الذين اعتنق عدد منهم دعوته للتغيير، فانقسمت ألمانيا إذن بين كنائس لوثرية وكنائس كاثوليكية.

زواج الكاهن والراهبة

دعوات الإصلاح والتغيير باتت شعار المرحلة، وقد حركت كل وتر ساكن في المجتمع، وفي دير نيميتش بساكسونيا وجدت راهبات في كتابات مارتن لوثر أملا في التخلص من الظلم الذي وقع عليهن من أسر فرضت عليهن حياة الرهبنة تخلصا من مشاركتهن في الميراث.

فتدخل لوثر وألحق بعضهن بأهاليهن، وعمل على إلحاق بعضهن بالعمل، وتزوج من إحداهن وهي كاترين بورا يوم 13 يونيو/حزيران 1525م، في تراجع عما قرره من قبل من رفض للزواج لأنه مطارد كهرطوقي مهدد بالموت، وقد أثار هذا الزواج الثوري الإصلاحي الاعتراضات من الكاثوليك ولدى الإصلاحيين أيضا، ولكنه في النهاية نجح واستقر وأثمر أولادا.

انطفأت دعوات الحروب الأهلية وهدأت الأجواء، فبدأ مارتن لوثر جولات مع رفيقيه سبالاتين وملانكثون في 1527م و1529م لزيارة الكنائس التي اعتنقت مبادئ الإصلاح، فاكتشف أن الانتشار السريع لدعوته الإصلاحية في كنائس ألمانيا خلف عليه عبئا كبيرا في توفير القيادات والمعلمين القادرين على شرح الرؤى الإنجيلية، ولذلك كتب سفرين هما “أصول الإيمان المفصل” و”أصول الإيمان المختصر” باللغة الألمانية، وقد لقي هذان الكتابان انتشارا كبيرا بين فئات الشعب.

إعلان البروتستانتية

وإزاء التنامي السريع في قبول الإصلاح اللوثري في ربوع المقاطعات الألمانية تنامت جهود أمراء المقاطعات الكاثوليكية في الحرب عليه، فاجتمعوا في الدايت الألماني وأصدروا قرارات بمنع دعوات لوثر في المقاطعات الكاثوليكية، ومنع إقامة أي كنيسة لوثرية في أي منطقة توجد بها كنيسة كاثوليكية، وإطلاق العنان للكاثوليك في الدعاية بمناطق الكنائس اللوثرية.

وفي مواجهة هذه القرارات اجتمع أمراء الشمال وأمراء 14 مقاطعة في الجنوب، وأعلنوا احتجاجهم على هذه القرارات ورفعوا عبارة “نحن نحتج”، ولهذا أطلق على أهل الدعوة اللوثرية اسم البروتستانت.

عندما هدأت النزاعات الخارجية رغب شارل الخامس بأن يلتفت للمشكلة الداخلية الألمانية، وينهي الانقسام، فدعا إلى مجمع على مستوى الأمة والكنيسة يحضره الكاثوليك والبروتستانت، وانعقد المجمع في أكسبورغ في 8 أبريل/نيسان 1530م في غياب مارتن لوثر، وقدم البروتستانت الكثير من التنازلات، ولكن المجمع لم يصل إلى أي توافق، فرفض شارل الخامس موقف اللوثريين، وكتب إلى البابا “لن ينفع إلا العنف”، وأمهل البروتستانت حتى 15 أبريل/نيسان ليتراجعوا عن موقفهم، فانسحب وفدهم وعاد إلى فيتمبرغ سالما، وانهمكوا في دعوتهم، وأخذوا يجمعون شتاتهم دفاعا عنها، فأصدروا معاهدة دفاع مشترك في 1537م.

انهمك لوثر أيضا في الكتابة والوعظ والرحلات إلى الكنائس البروتستانتية، وكان يرى أن الواجب في تعليم مبادئ الإصلاح أعظم من العمل على توسيع الانتشار، وظل لسنوات بعد مجمع أوغسبورغ 1530 ولا عمل له إلا نشر تعاليمه، مع ما كان يعانيه من أمراض.

وفي 13 يناير/كانون الثاني 1546م قام برحلة من بيته في فيتمبرغ وصل في نهايتها إلى إيسليبن مسقط رأسه في 31 يناير/كانون الثاني 1546م، ونشط في الوعظ والتواصل مع رفاق الدعوة الإصلاحية، وبذل في ذلك جهدا كبيرا مع اعتلال صحته وقسوة برد الشمال في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط.

وفي 16 فبراير/شباط لزم مقره إذ اشتد عليه المرض فزاره أتباعه وهم يشعرون بأنهم يودعونه، وفي الثالثة صباحا من يوم الخميس 18 فبراير/شباط 1546 مات مارتن لوثر في المدينة التي ولد وتعمد فيها.

ميراث مارتن لوثر

رحل مارتن لوثر وترك خلفه مذهبا مسيحيا جديدا يعتنقه الآن أكثر من 500 مليون حول العالم، وقد ميزته عقائد وأفكار ثورية تعترض على كنيسة روما وترى أن البابا يمكن أن يخطئ، وترفض صكوك الغفران، وترى أن العفو عن المذنب هبة من الله، وتحتكم إلى الكتاب المقدس مباشرة وتفسره بظاهر النص، وترى حق كل مسيحي في قراءة الكتاب، وترفض الرجوع إلى قوانين المجامع، وتبيح الصلاة باللغات المحلية، وتبيح زواج الرهبان، وترى كهنوت جميع المؤمنين بما يعني رفض تنظيم الكهنة الكنسي.

جملة الأفكار البروتستانتية تعود إلى أفكار مارتن لوثر، وإن كانت قد تفرقت بعد ذلك إلى مذاهب وكنائس مجموعة في 7 عائلات يلاحظ تأثرها جميعا بالفكر الإسلامي، لا سيما المذهب الظاهري الذي أشاعه ابن حزم في الأندلس، وقد كتب الشيخ أمين الخولي في ذلك بحثا موجزا قدمه إلى مؤتمر الأديان العالمي السادس في بروكسل عام 1935 إذ كان موفد الأزهر.

دعمت دعوةَ مارتن لوثر وثورته روحٌ قومية ألمانية وجدت عناصر قوتها في فكره وحركته، واستفز هو أيضا هذه الروح، إذ كان يسمي أفكاره “لاهوتنا” و”اللاهوت الألماني”، كما أن أنشطته الفكرية والثورية ومؤلفاته التي انتشرت في عموم المقاطعات فرضت اللغة الألمانية لغة أدب.

فقد كانت الجماهير تقبل على كتبه التي صاغها بلغتهم الدارجة، حتى إنها كانت تباع في المكتبات وفي منافذ بيع الأغذية، وكان يقول: إنه ينبغي ألا نطلب كما يفعل الحمير من الحروف اللاتينية أن تعلمنا كيف نتحدث الألمانية، بل ينبغي أن نسأل الأمهات في بيوتهن والأطفال في الشوارع وعامة الناس في السوق، يجب أن نسترشد بهم في الترجمة، ولسوف يفهموننا ويعلمون أننا نخاطبهم بالألمانية.

لم يكن مارتن لوثر الإصلاحي الأول في عصر النهضة، بل سبقه عدد من المثقفين والقساوسة كان مصيرهم الحرمان بقرار من البابا والحرق بأمر الإمبراطور، ولكن الظروف كانت قد نضجت في سنوات نشاط لوثر، حتى تحولت أفكاره إلى ثورة قومية ألمانية انتشرت في أوروبا الغربية، وخاضت صراعات عنيفة مع الكاثوليكية بلغت أوجها في حرب الـ30 عاما بين 1618م و1648م التي أدت إلى انخفاض عدد سكان ألمانيا بنحو 30%، وانتهت بعقد صلح ويستفاليا الذي أقر البروتستانتية مذهبا مسيحيا، وأدى إلى قيام الدول القومية في أوروبا.

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 5 / 5. عدد الأصوات: 1

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

رييل ستوري |تكية خاصكي سلطان تطعم فقراء القدس منذ 500 عام

Next Post

قصة تمثال من الزبدة | قصص اطفال

Related Posts