dark

ذهنية الأزمة

0
(0)

جمال أبو الحسن

جمال ابو الحسن

الأزمة هى حدث غير متوقع، وضاغط، ويحتاج إلى نوع من التدخل الحاسم. أصل الكلمة بالإنجليزية crisis يعود إلى اللاتينية، وترجع جذورها إلى اليونانية، وتنتمى إلى عالم الطب والمرض. هى تصف وضعًا يكون لازمًا فيه اتخاذ الطبيب قرارًا بالتدخل بالبتر للحيلولة دون تفاقم المرض إلى حد الموت. وقريبٌ من هذا أيضًا المعنى بالعربية الذى يذهب إلى الشدة والقحط، وأيضًا إلى «القطع».. أزم الشىء أى قطعه. وهو ما يلخص بالضبط المُعضلة التى تمثلها أى أزمة، على أى مستوى: الحاجة إلى اتخاذ قرار سريع تحت الضغط، قد ينطوى بالضرورة على قدر من الألم.. بهدف تجنب معاناة أكثر فى حالة عدم اتخاذ هذا القرار.

 

الأزمة لها ذهنية خاصة لا تتشابه مع الحياة العادية. هى حدث يكسر النمط المعتاد، ويجلب معه قدرًا خطيرًا من انعدام اليقين. العنصر الأساسى فى الأزمة هو عدم القدرة على التنبؤ بمآلاتها، لذلك هى تضغط على الجهاز العصبى للبشر، وربما تدفعهم إلى الانهيار الكامل تحت وطأة تدافع الأحداث المفاجئة والصادمة.

 

وقد عرف البشر منذ وقتٍ بعيد جدًّا فى تاريخهم على الأرض أن الأزمة شىء محتمل الوقوع، بل هم أقاموا مؤسساتهم ومجتمعاتهم، وصاغوا عالمهم الروحى والعقلى على وقع الأزمات والكوارث المحتملة، وبغرض تقليل مخاطرها وتوزيع أعبائها على أعداد أكبر من البشر. يمكن النظر إلى المجتمع البشرى بوصفه وسيلة مبتكرة لجأ إليها الإنسان بغرض التعامل مع الأزمة- أى أزمة- ذلك أن البشر عرفوا بالتجربة أن ثمة أزمات لا يستطيع البشر التعامل معها فرادى، ولا حتى كأسر صغيرة. كلما توسع حجم المجتمع زادت قدرته على التعامل مع النوازل. القبيلة، على سبيل المثال، هى نوع من الضمان الاجتماعى فى مواجهة أزمات غير متوقعة لا يستطيع أن يواجهها الفرد وحده، كأن يتعرض للإصابة التى تُعجزه عن كسب قوته، أو أن يفقد أسرته. المدن والدول والإمبراطوريات الكبرى هى استراتيجيات ذكية لتنظيم مجتمعات كبيرة بغرض التعامل مع أزمة داهمة: قحط أو جفاف أو فيضان أو غزو خارجى.

 

والمتأمل للعالم الروحى الغنى للجماعات البشرية، منذ ما قبل التاريخ، يرصد على الفور هذا النزوع إلى تهيئة البشر للتعامل مع الأزمات، ومحاولة التعايش معها، وتقبل احتمال وقوعها فى العالم. الإنسان، بالطبيعة، ينفر من التفكير فى الأزمة إلا عندما تقع. الأديان ونظم العقيدة المختلفة تسعى إلى دفع الإنسان دفعًا للتفكير فى الأزمة باعتبارها مكونًا رئيسيًّا فى الحياة. العلة وراء ذلك أن هذا التفكير والتدبر يمثلان نوعًا من التدريب النفسى على الأزمات، والاعتياد عليها، بحيث يصير وقعها- إن هى حدثت- أخف وطأة، وأكثر قابلية للاحتمال.

 

ونجد أن النصوص المقدسة للديانات الإبراهيمية بالذات تضم داخلها طائفة متنوعة من الأزمات والنوازل والكوارث، التى تواجه الفرد (النبى أيوب عليه السلام على سبيل المثال)، أو جماعة بأكملها (قصة خروج اليهود من مصر)، أو البشرية بأسرها (قصة طوفان نوح عليه السلام). وفى هذه القصص نصادف تشكيلة متنوعة من ردود الفعل البشرية على الأزمات، ما بين التسليم والإنكار والغضب، وتتسرب إلى نفوسنا حقيقة جوهرية: أن الأزمة ليست نهاية العالم، وأنه حتى لو بدا أن العالم ينتهى (الطوفان)، فإن ثمة بداية جديدة تنتظرنا فى مكانٍ ما. نُدرك أيضًا أن تقبل الأزمات والتسليم بوقوعها فى الحياة هو السبيل الأفضل للتعامل مع هذا الواقع الصعب، بل نتعلم أن هذه الفترات التى تمر علينا من دون أزمات هى نعمة كبيرة ومنحة نادرة لا ينبغى أن نعتبرها مُسلَّمة أو أمرًا عاديًّا، وهو أمرٌ يصعب للغاية على البشر تمثله والاقتناع به. يقول تعالى فى محكم التنزيل: «وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مسَّهُ».

 

 

والإنسان، وحتى خمسين عامًا مضت لا أكثر، كان أكثر تقبلًا لهذا الفهم للعالم باعتباره مكانًا خطيرًا، مفعمًا بالكوارث. ربما كان الجيل الذى شهد الحرب العالمية الثانية هو آخر جيل حمل فى داخله ذلك الوعى. التقدم الطبى المذهل الذى أدى إلى إطالة الأعمار، وتراجع الحروب بين القوى الكبرى، وزيادة أسباب الأمان فى الحياة بوجه عام.. أدت جميعها إلى وعى جديد لدى أعداد هائلة من البشر، لم تعد ترى الأزمة مكونًا رئيسيًّا فى العالم. هذا بالضبط ما يزيد من عوامل الهشاشة لدى الأفراد والمجتمعات على حد سواء، بحيث يصبحون أكثر عُرضة للانكسار والانهيار والتضعضع النفسى والمادى تحت وطأة الأزمات والكوارث.

 

 

والحال أن تحولات متعددة، وعلى أكثر من صعيد، تُعيد إلى عالمنا بصورة أو بأخرى «ذهنية الأزمة». وهى ذهنية لا يبدو أن الأمم والأفراد معتادون عليها، ولكنهم سيضطرون اضطرارًا إلى رؤية الواقع من خلالها. من أهم ما يميز هذه الذهنية أنها تدفع المرء باستمرار إلى التفكير فى البدائل الأسوأ لأى وضع. لا يعنى ذلك أن يرى الناس الحياة بمنظار أسود، فهذا لا يساعد فى شىء، ولا يفيد حتى فى التعامل مع الأزمات. ولكن كثيرًا ما يكون مفيدًا أن يأمل الإنسان فى الأفضل، واضعًا فى اعتباره إمكانية تحقق السيناريوهات السيئة باعتبارها احتمالًا منطقى الحدوث. فى عبارة مختصرة: توقَّع الأفضل، واستعِدّ للأسوأ.

 

 

لهذا النوع من التفكير انعكاس على الفرد والمجتمع على حدٍ سواء. الفرد تزيد قدرته على الصمود إن هو وضع فى حسبانه احتمالًا لانحدار الحال، وكذا المجتمعات. يظهر ذلك بالتحديد فى المجال الاقتصادى. تأمل، على سبيل المثال، بلدًا مثل لبنان اعتاد سكانه الإنفاق الترفى على متع الحياة المختلفة، وبخاصة على «صناعة الجمال».. حتى صار المثل: «تديَّن لتتزيّن» معبرًا عن هذه الحالة. وتبين أن هذا الإنفاق لا يضع للمستقبل أى حساب، بل هو يستدين من المستقبل باستمرار.. حتى انهار البناء الاقتصادى كله بين عشية وضحاها، وأفلس البلد. ومن قبل لبنان، كانت اليونان التى كادت تغرق هى الأخرى تحت وطأة الإنفاق الترفى وحزمات المزايا الاجتماعية الباذخة، التى لا يسندها اقتصاد إنتاجى، لولا أن امتدت إليها يد العون من ألمانيا.

 

 

ذهنية الأزمة، فى مجال الاقتصاد، تعنى ببساطة وضع هامش معقول للنوازل المفاجئة، وتجنب وضع الحسابات على أساس أفضل السيناريوهات وأكثرها وردية. الأمر يشبه القائد الذى يخوض معركة عسكرية، فيضع فى حسابه أولًا العمل على «تجنب الهزيمة»، ثم يفكر فى كيفية إحراز النصر. فى الاقتصاد أيضًا، تقوم خطط التنمية على هامش معقول من احتمالات تراجع الحال على صعيد عالمى، أو وقوع حدث داهم يغير الصورة، حتى إذا حدث الأسوأ كانت خطط التعامل جاهزة وحاضرة.

 

 

ذهنية الأزمة تدفعنا إلى التعامل مع الواقع بعقلية «بوليصة التأمين». نحن لا نتمنى وقوع حادث، ولكننا نعرف أن هذا احتمال قائم، وننفق جزءًا من مواردنا للاستعداد له. هى ذهنية واقعية، سواء للفرد أو الدولة، أو حتى المجتمع العالمى. حتى لو كانت آثار التغير المناخى بعيدة، أو محلًّا للجدل، فإنه من المفيد- رغم ذلك- التحصين فى مواجهتها والاستعداد لها بما يشبه بوليصة التأمين (سياسات تخفيض الانبعاثات أو زيادة كفاءة الطاقة.. مثلًا).

 

 

ومَن يراقب الوضع الاقتصادى فى بلدنا يمكنه بسهولة رصد غياب هذا النوع من الاعتبارات. اختيارات الإنفاق الحكومى، وكذا أنماط استهلاك الأُسر والأفراد، لا تعكس ذهنية الأزمة بأى حال، بل هى قامت على افتراض- غير واقعى- بأن الأمور سوف تسير على أفضل ما يكون، ووفق أكثر السيناريوهات الوردية. لذلك، فإن وقع الأزمة الاقتصادية الوشيكة علينا، كأفراد ومجتمع، سيكون للأسف أشد وطأة وقسوة مما سيكون عليه الحال لو أننا أعددنا أنفسنا لاحتمالاتٍ سيئة أو لو كانت لدينا ذهنية الأزمة!.

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 0 / 5. عدد الأصوات: 0

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

حدث فى مثل هذا اليوم 29 أكتوبر1897.. مولد بوق النازية جوزيف جوبلز

Next Post

كم كانت فترة خلافة علي بن ابي طالب

Related Posts