dark

في ذكرى الرحيل.. توفيق الحكيم والروبابيكيا

0
(0)

(القاهرة ـ 1986)أسهل حاجة أن أقول أننا كنا أسوأ حظًا من جيل هذه الأيام.. ولكن للحقيقة كانت في جيلنا ميزة عظيمة جدًا.. هذه الميزة هي القيمة” بهذه الكلمات القليلة، والبسيطة، والعميقة لخص توفيق الحكيم ما وصل إليه حالنا – وحال المجتمع – ( لاحظ أنه كان يتحدث ــ عن قيمة الإنسان ــ سنة 1986) وما وصلنا من مستوى غاية في السوء، والتدهور، والجمود، والجحود، والاضمحلال.
الساعة الآن السابعة مساءً، والجو هادئ داخل أروقة مستشفى المقاولون العرب بوسط القاهرة. داخل الغرفة (414) التي نُقل لها ـ بعد خروجه من العناية المركزة التي دخلها يوم 21 إبريل/ نيسان من ذلك العام مصابًا بهبوطٍ شديد، والتهاب رئوي حاد (رحل فى 26 يوليو/ تموز – مثل هذا اليوم – عام 1987.
النقاش ـ في الغرفة ـ مازال ساخنًا وقائمًا بينه وبين نجيب محفوظ وصديقه الدكتور حسن عبدالله والكاتب الصحفي صلاح منتصر ـ بعد لحظات صمت طالت بعض الشيء قال الحكيم:” عندما كان الأطباء يطمئنوني على شفائي كنت أسألهم بصدق: “وما الفائدة من حياتي؟ يقولون: “علشان تمتعنا. قلت: ليه؟ هو أنا مطرب؟ قالوا: علشان تكتب لنا! قلت: هوه أنا لسه هاكتب؟ الناس لو بتقرأ كان يبقى فيه أمل. الناس النهاردة للأسف لا تريد القراءة.. وإذا قرأت فهي تقرأ الصحافة والمقال الطازج.. لكن ما عندي لم يعد سوى ذكريات قديمة، وحياة قديمة، والناس عايزة الطازة.. عاوزة الجديد.. لكن أنا بقيت روبابيكيا”! علت الدهشة وجه صلاح منتصر الذي سأله: “ولماذا تقول هذا الكلام يا توفيق بيه؟ رد: “انظر حولك ستجد أنك تعيش في مجتمع قائم على الماديات” ثم واصل كلامه (أو عتابه للزمن) ـ وهو ينظر إلى نجيب محفوظ ـ قائلًا: “أنا كتبت 100 مسرحية و60 كتابًا.. تعرف ماذا أدركت خلال مرضي؟ أدركت أن ربنا أراد أن يمد في حياتي حتى أرى ـ وأنا في حالة احتضار طويل ـ أن كل أعمالي التي تعبت العمر فيها لا قيمة لها” هز نجيب محفوظ رأسه وهو يُفسح الطريق لطاقم التمريض الذي حضر الآن، فيما وقف الدكتور حسن عبدالله ينظر من نافذة الغرفة للشارع الذى يراه من بعيد مزدحمًا بالسيارات، والبشر، وصخب المدينة!
دخل فريق التمريض يتقدمه شاب وفتاة. سأل الحكيم الفتاة: “اسمك إيه؟ ردت: “سعاد”. قال: “وأنت ما هو اسمك؟ رد: “إسماعيل يا فندم”! هنا سكت، وسلم لهما ذراعه الأيمن (كانت حقنة المساء) بهدوء شديد، وثبت بصره في سقف الغرفة؛ فيما نظر نجيب محفوظ إلى صديقه وقال هامسًا: “يبدو أنه تذكر جُرح رحيل ابنه إسماعيل، ذلك الجُرح الغائر، والدائم، والساكن في قلبه منذ سنوات. ثم أضاف قائلًا: “كان إسماعيل الحكيم موهوبًا حقًا، ولمع نجمه باعتباره أول من أدخل موسيقى الجاز إلى مصر، ومات – متأثراً بالمخدرات التى أدمنها – في عز شبابه. ومن قبله ماتت زوجته (والدة إسماعيل) ليعيش الرجل وحيدًا في بيته سنوات طويلة بعد زواج ابنته، وخسارة زوجها كل أمواله – أي أموال توفيق الحكيم – التى كان قد أهداها إلى ابنته بعد زواجها“!                                                                         •••
(مبنى نقابة الصحفيين ـ 2021)
كانت الساعة قد وصلت إلى الواحدة من بعد ظهر يوم هادئ عندما التقيت بزميل (صحفى قديم) لتناول فنجان شاي معه حسب موعد محدد بيننا سلفًا. في اللقاء تحدثت معه عن مشروع كنت قد طرحته على المهندس عبد الصادق الشوربجي رئيس الهيئة الوطنية للصحافة. وما هو هذا المشروع؟ قلت: “تحويل مكتب نجيب محفوظ ـ في الأهرام بالدور السادس ـ إلى متحف مُصغر يضم بعض مقتنياته، وكتاباته، وأرشيفه، وصوره، في الصحافة ـ كان ذلك في ديسمبر/ كانون أول الماضي ـ (بمناسبة ذكرى مولده 110). قال: وبماذا رد عليك؟ قلت: الحقيقة تجاوب بسرعة. وقال: “اطرح ـ على لساني ـ هذه الفكرة الرائعة على عبد المحسن سلامة رئيس مجلس إدارة الأهرام، والهيئة ستدعمها بكل ما لديها من تراث صحفي خاص بنجيب محفوظ”.  وهل طرحت؟ قلت: حتى الآن.. لا! ثم استطردت قائلًا: “هذه الفكرة لو طبقت، فمن المؤكد أنها كانت ستريح ـ ولو قليلًا ـ  توفيق الحكيم في مرقده، خاصة وهو الذي قد حذرنا ـ كمجتمع ـ من تراجع “القيمة” في حياتنا ومجتمعنا، ناهيك عن أن هذه الحجرة كانت من قبل غرفته هو نفسه – أي توفيق الحكيم – بعدما نجح محمد حسنين هيكل ـ عندما كان بيننا من يحافظ على القامة والقيمة ويقدرها حق قدرها ـ في أن يأتي به للأهرام ككاتب بأجر خيالي وقتها! يقول هيكل: “قلت له يا توفيق بيه سوف يكون أجرك مثل أجري، تمام (أنا رئيس مجلس الإدارة والتحرير) – وكان أجره 5 الآف جنيه في الشهر! وبالفعل التحق توفيق الحكيم بالأهرام.
                        •••                                                                                
( القاهرة ـ 1987)
من داخل غرفته مازال توفيق الحكيم يتحدث إلى ضيوفه. قال: “في مكتبي بالأهرام الذي انتقلنا إليه في عام 1968 كان فيه أعظم صالونات الفكر والأدب والفن (أيام هيكل) وكنت أجلس وأمامي شوامخ العصر “زكى نجيب محمود، وثروت أباظة، وعبد الرحمن الشرقاوي، وحسين فوزي، وبنت الشاطئ، ويوسف إدريس، ويوسف جوهر، وصلاح طاهر.. وأنت يا نجيب “ثم استطرد قائلًا: “ما بك يا نجيب؟ أراك شاردًا”! رد: “أبدًا يا حكيم بيه.. فقط وأنت تسرد هذا التاريخ كنت عدت بذاكرتي إلى تاريخ أقدم منه. لقد عدت إلى (سنة 1897) عندما تزوج والدك ـ وكيل النيابة ـ من والدتك ـ رحمهما الله بواسع رحمته ـ ومازلت أذكر ( الخناقة) ـ قال ذلك وهو يضحك بشدة ـ التي دارت في بيت العائلة بينهما والتي هددها فيها والدك بالطلاق وهما في شهر العسل! ابتسم الحكيم واعتدل في جلسته وقال: “هذه كانت أيام ـ رغم كل شيء ـ ذات قيمة، وقامة، واحترام، وتقدير، وعادات، وتقاليد. ورغم قسوتها أحيانًا كان لها جمالها! مندهشًا سأل صلاح منتصر: “طلاق في شهر العسل”.. كيف حدث ذلك؟
                     •••       
(محافظة الغربية ـ 1897)
إلى مدينة المحلة الكبرى سافر أبي ـ هكذا يتذكر توفيق الحكيم ـ إلى أهله في عزبة (صفط الملوك) التابعة للمدينة ومعه عروسه. في القطار قال لها: “عندي كلمة أحب أن تسمعيها “اتفضل قول: “إذا وجهت إليك زوجة أبي كلمة جافية فتحمليها “ردت والدتي: “والله لو قالت لي كلمة لأرد عليها بعشرين” قال أبى: “أرجوك لأجل خاطري وخاطر أبي” سكتت أمي ولم ترد! وهل حدث ما كان يخاف منه والدك يا توفيق بيه؟ هكذا سأل الدكتور حسن عبدالله؟ رد: “طبعًا.. حدث هجوم وهجوم مضاد.. وتوترت الأجواء في البيت. فطلب منها أبي الاعتذار. وعندما رفضت سحبها من يدها، وهو يهمهم بكلمة الطلاق أو يهددها بها، لكن جدي تدارك الموقف وطلب من أبي تجاوز هذا الخلاف! وهل تأثرت والدتك بهذا الموقف؟ رد: نعم.. وقتها ـ كما قالت لي بعد ذلك ـ خذلها أبي لأنه كان يحب والده ويحترمه ويقدره أكثر من أي شيء. أمى قالت لي: “يومها شعرت أنني مهددة بالطلاق في أي وقت لذلك تشاءمت من الحياة الزوجية وقررت إيجاد مورد مالي يحميني من غوائل الدهر.. وبالفعل نجحت واشترت عزبة بفلوس ميراثها!
                        •••
( الغرفة – بعد مرور ساعة)
هل تسبب هذا الموقف في أن تًحب جمع المال لدرجة جعلت البعض يعتبرك بخيلًا؟ هذا السؤال طرحه صلاح منتصر؟ سكت الحكيم ولم يرد فيما دافع نجيب محفوظ قائلًا: “الحكايات عن بخله وعدائه للمرأة هي أقرب إلى الدعاية منها إلى الحقيقة. كيف يكون بخيلًا من يزوج ثلاث بنات في عام واحد وينفق على زواجهن 15 ألف جنيه (كان مبلغاَ كبيراَ وقتها) ومنهن اثنتان هما  لزوجته من زواج سابق. ولو كان الرجل بخيلاَ ما كان أنفق مليمًا واحدًا. ابتسم الحكيم من هذا الرد فيما أطلق صلاح منتصر سؤالًا آخر يستفسر فيه عن سر هجومه على عبد الناصر؟ وقبل أن يتولى نجيب محفوظ الرد انتفض الحكيم قائلًا: “عبد الناصر مازال هو عبد الناصر.. وأنا مازلت أحبه ولكني لا أقدسه” ثم قال بحدة: “هل أنا نادم على كتاب عودة الوعي؟ بالطبع لا.. ولو كان عبد الناصر على قيد الحياة لكنت طلبت أن يطلع عليه. واعتقد أنه كان سيوافق على نشره. وإذا طلبت منه كتابة مقدمه له لفعل. فهو شخصية عظيمة مفتوح القلب والعقل.. وأنا كنت أؤدي واجبي ككاتب حر في إطار حبي الشخصي له. ومع ذلك أعدت قراءة الكتاب مرات ومرات، لمراجعة ما قيل أنه هجوم على عبد الناصر، فلم أجد كلمة واحدة تمس شخص عبد الناصر أو سمعته أو أخلاقه.. إنما هو نقد موضوعي للنظام فقط وليس لشخص الزعيم “سأل الدكتور حسن عبدالله قائلاَ: “إذن لماذا كل هذا الهجوم على الكتاب؟ رد بدهشة: “لأن الذي اتهمني بالهجوم على عبد الناصر لم يقرأ الكتاب قراءة متعمقة”؟
في نهاية اللقاء جاء الفريق الطبي لمتابعة الحالة فيما غادر ضيوفه على وعد بلقاء في القريب العاجل!
                       •••
(الغرفة – بعد أسابيع)
بعد أيام جاء القريب العاجل هذا وعاد نجيب محفوظ لزيارته ومعه صديقه الدكتور حسن عبدالله. لم تستغرق الزيارة دقائق خرج بعدها حزينًا بعدما تدهورت حالته الصحية مما جعل نجيب محفوظ يقول لصديقه وهو يغادر المستشفى: “إننى لم يحدث أن تمنيت الموت لأحد، لكن حالة الحكيم جعلتني لا اتمنى له الحياة بهذا الشكل” وبعد أيام من هذا اللقاء الذي ودعه فيه.. مات توفيق الحكيم! مات قبل أن يرى “القامة.. والقيمة.. والتراث.. والتاريخ.. والحضارة.. والثقافة” في المجتمع، وقد وصلت إلى ما وصلت إليه

الأحداث حقيقية…والسيناريو من خيال الكاتب.

المصادر:
كتاب: نجيب محفوظ / رجاء النقاش. طبعة 1998.مركز الأهرام للترجمة والنشر.

كتاب: توفيق الحكيم / شهادته الأخيرة / صلاح منتصر . طبعة 1996. مركز الأهرام للترجمة والنشر.

كتاب: لمصر لا لعبد الناصر / محمد حسنين هيكل. طبعة 1987. مركز الأهرام للترجمة والنشر.

كتاب: سجن العمر / مذكرات توفيق الحكيم. الطبعة الأولى 2003 دار الشروق.

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 0 / 5. عدد الأصوات: 0

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

أهم الأحداث التاريخية في شهر أغسطس بمناقشات قصور الثقافة

Next Post

اقتباسات من كتب أحمد خالد توفيق

Related Posts