تتيح موسوعة ويكيبيديا لمستخدميها من المتطوعين كتابة المقالات أو التعديل على المحتويات المتاحة، أيًا ما كانت أعراقهم، ثقافاتهم وحتى أعمارهم، رافعة شعار «موسوعة حرة يستطيع الجميع تحريرها»، فكيف تسبب ذلك في تزوير جل تاريخ روسيا بأغرب دافع ممكن وهو «الملل»؟

ويكيبيديا.. ملك الجميع

طبقا لسياسة النشر، لا يحصل المستخدمون على تدريب قبل إنشاء المحتوى أو التعديل عليه، كما تعمل الهيئة الخيرية فقط على التحقُّق من صحة المواد المنشورة قبل عرضها على الفضاء الإلكتروني. بالتالي كُل ما عليك فعله، هو إنشاء حسابٍ، يضمن لك صفة «ويكيبيدي»، ومن ثَم تبدأ في كتابة المحتوى الذي تريد إضافته للموسوعة العالمية.

وفقًا لسياسة عمل الموسوعة العالمية، إدارة نظام النشر أو التعديل عادةً ما تكون في أيدي محرري ويكيبيديا، الذين يناقشون مضمون المادة أو يحسنون عمل بعضهم بعضا.

حيث تصوب الأخطاء أو عمليات التحرير السيئة بواسطة بعض المستخدمين الذين يضيفون بعض الإخطارات إليها أو يحررونها أو يعيدون كتابتها. لكن ماذا لو لم يحدث ذلك سهوًا؟

بشكل مثير، قد ينتُج عن هذا السهو محتوً مشوهًا، بل أحيانًا مزورًا بالكامل، وهو ما تم الكشف عنه في يونيو 2022، حين قاد الملل ربة منزل صينية إلى التلاعب بتاريخ روسيا المنشور على النسخة الصينية من ويكيبيديا، فكيف حدث ذلك؟

محض صُدفة

أثناء بحثه عن كتاب ما، اصطدم أحد الروائيين الصينيين بمقال على ويكيبيديا يسرد تاريخ «منجم كاشين الروسي»؛ وهو منجم فضة تم اكتشافه بواسطة الفلاحين الروس بالقرن الـ14. لكن المثير، أن المقال، المكتوب بعناية، قَصّ سلسلة من المعلومات حول هذا المنجم.

وأشارت كاتبة المقال إلى عمل نحو 40 ألف إنسان داخل هذا المنجم، الذي وفر مصدرًا رائعًا للثروة لإمارة «تفير» الروسية في القرنين الـ14 والـ15، كما تضمّن المقال توضيحًا للتركيب الجيولوجي للتربة، وهيكل المنجم، وحتى عملية التكرير بالتفصيل في المدخل.

وقتئذٍ، شارك الروائي الصيني «ييفان» اكتشافه على موقع «Zhiho»، الذي يشبه موقع «Qoura»، الذي يتبادل عليه المستخدمين الأسئلة والإجابات حول مواضيع مختلفة، مؤكدًا على أن ثراء المحتوى الخاص بالكاتبة الصينية يؤكد على ضعف المحتوى الروسي والإنجليزي عن هذه القصة تحديدًا.

توقّع الروائي الصيني المتحمّس أنّه قد وجد مادة دسمة لكتابة رواية جديدة، وبالفعل نشر قصته عن «منجم كاشين»، قبل أن يتلقى بلاغات عدة من قرّاء روس، ادّعوا أن المصادر المرفقة بالمقال المنشور على ويكيبيديا لا وجود لها من الأساس.

وبعد مزيد من التدقيق، اتضح أنّ قصة المنجَم لم تكن سوى واحدة من 206 موضوع مزيَّف نشرته السيدة الصينية التي استخدمت اسم «زيماو» على موسوعة ويكيبيديا منذ 2019، بطريقة متقنة، حيث اختبرت قدرة مستخدمي الموسوعة العالمية على اكتشاف زيف المحتوى المنشور أو التحقق منه لسنوات.

المحتوى الذي كتبته ذو جودة عالية والمدخلات مترابطة، مما أدى إلى إنشاء نظام يمكن أن يظل قائمًا بمفرده، باختصار، اخترعت زيماو بمفردها طريقة جديدة لتقويض ويكيبيديا.

– جون ييب، الصيني المخضرم في موقع Wikipedian لـ VICE World New.

تزوير كامل للتاريخ

اتضح حجم التزوير الذي قامت به «زيماو» بعد أن قامت مجموعة من المحررين المتطوعين وغيرهم من مستخدمي ويكيبيديا، بمراجعة مساهماتها السابقة في ما يقرب من 300 مقالة.

كان مقال «غاتسبي العظيم» أحد أطول مقالاتها، حيث عرضت بالتفصيل قصة 3 انتفاضات تاتارية في القرن الـ17، والتي تركت بدورها تأثيرًا قويًا على روسيا، كما استعرضت داخل نفس المقال صورة لعملة معدنية تعود لنفس الفترة، زعمت أنّها حصلت عليها عن طريق فريق بحث أثري روسي.

وفي مقال آخر، تلاعبت «زيماو» بشدة بالتاريخ، حيث قصّت حكايات عن ترحيل الصينيين من الاتحاد السوفيتي في عشرينيات ثلاثينيات القرن الماضي. والمثير، أنّ المقالة كانت مكتوبة بشكل جيد، بل وتم اختيارها كمقالة مميزة ومن ثم ترجمت إلى لغات أخرى، بما في ذلك الإنجليزية والعربية والروسية.

«بدت مساهماتها شاملة، مع اقتباسات مناسبة، لكن بعضها كان مختلقا، في حين أن البعض الآخر لديه أرقام صفحات لم يتم جمعها من الأساس. على سبيل المثال؛ كثيرًا ما اقتبست من سلسلة تاريخ روسيا منذ العصور القديمة، وهو عمل ضخم يضم 29 مجلدًا للمؤرخ الروسي المعروف سيرجي إم سولوفييف، لكن تبين أن الترجمة الصينية التي استشهدت بها كانت برمتها زائفة».

جدار الثقة

بدا أنّ زيماو تعلم جيدًا ما تفعل، بل اتضح أنّها أدركت أنّ التلاعب بمحتوى موسوعة ويكيبيديا يستلزم بعض الإجراءات التي تتخطى مدى ترابط المحتوى نفسه. وهو ما فعلته حين قامت ببناء جدار ثقة وهمي، فكيف ذلك؟

أولًا، ادعت زيماو أنّها ابنة دبلوماسي صيني يقيم في روسيا، ومتزوجة من رجل روسي، قبل أن ترفق أوراق اعتمادها الأكاديمية في ملف تعريف المستخدم الخاص بها، بما في ذلك درجة الدكتوراه في تاريخ العالم من جامعة موسكو الحكومية.

من جهة أخرى، امتلكت السيدة الصينية حسابات مزيفة أخرى، كان الغرض منها استخدامها لخلق وهم بالدعم للمحتوى الذي تقدمه. باختصار، استطاعت أن تخلق لنفسها شخصية أكاديمية متواضعة من العدم، ما جعلها تكتسب احترام وثقة المجتمع الافتراضي لويكيبيديا.

اعتقدت أنها كانت موهبة نادرة، كان الموقع يفتقر إلى كتّاب على دراية بروسيا في العصور الوسطى، أنا نادم بشدة لأنني لم أدرك هراءها بل قدمت لها الدعم، أشعر وكأنني متواطئ معها.

إريك ليو، طالب تاريخ وأحد الشهود على الحادثة.

من هي زيماو؟

بالتأكيد، تريد الآن معرفة هوية هذه السيدة، والسبب الحقيقي لرغبتها في ضرب مصداقية ويكيبيديا في مقتل.

بعد أن تَم فضح أمرها، خرجت «زيماو» في يونيو 2022 باعتذار عما بدر منها، وكانت المفاجأة الكبرى حين اعترفت أنّها ربة منزل، أنهت بالكاد تعليمها الأساسي، إضافة لعدم قدرتها على التحدُّث بالروسية أو الإنجليزية.

طبقًا لها، بدأت القصة برمتها بنية حسنة، نظرًا لعدم قدرتها على فهم المقالات العلمية بلغتها الأصلية، قامت بتجميع الجمل باستخدام أداة ترجمة وملأت الفراغات بخيالها الخاص. لكن مع مرور الوقت أدركت أنها كانت قد اختلقت آلاف الشخصيات والأحداث التي لا وجود لها.

حسب «زيماو»، الملل كان دافعها للقيام بكل ذلك؛ لأنّها زوجة لرجل يمضي وقتًا طويلًا في العمل، كما أنّها لا تمتلك أصدقاء، لذا قررت أن تفعل ذلك كي تمضي وقتها دون أن تشعر بالملل.

نهايةً، ربما يقوم أي شخص آخر بالمستقبل بنشر محتوى فاسد مشابه على صفحات ويكيبيديا، لأن الموسوعة ‑طبقًا للمتخصصين- تفترض دائمًا حسن نية المستخدمين، الذين لا يمكن التأكُّد من حالاتهم المزاجية، التي قد تدفهم لتغيير التاريخ بحجة الملل.