dark

خدش البصر والبصيرة

0
(0)

جدول المحتويات :

القاهرة الكبرى ليست مجرد مدينة/ محافظة- ودَعْنا من التقسيم الإدارى على الورق- هى عدة مدن متداخلة، تعكس حقبًا زمنية مختلفة، منذ غابر الأزمنة الفرعونية حتى يومنا هذا. وظلت القاهرة مدينة جميلة وفريدة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضى، ففى كل ركن من أركانها معالم أثرية وطرز معمارية تشهد على تنوع تاريخى فريد، قوامه النهر الخالد وما توالت على ضفافه من حضارات. وتتعدد أسماء أحياء القاهرة.. فهناك «القاهرة الفاطمية» بعراقتها وشخصيتها المميزة، وهناك «القاهرة الخديوية» بطابعها المعمارى «الأوروبى»، وفى القلب منها «المتحف المصرى» و«دار الأوبرا المصرية»، وهناك «مصر القديمة» بما تحويه من دُور عبادة أثرية للأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهناك «مصر الجديدة» بتصميمها الأساسى فى مطلع القرن العشرين، المتسم برحابة طرقها ووسائل مواصلاتها الكلاسيكية الشهيرة «مترو مصر الجديدة»، والأحياء «الهادئة»: الزمالك.. جاردن سيتى.. المعادى.. حى الفيلات بطابعه الخاص، وأيضًا أحياء تتجاور فيها المستويات الاجتماعية المتنوعة بصخبها وحيويتها: السيدة.. شبرا.. المنيل.. العباسية.. إلخ. كان بالإمكان السير والتنزه فى ممشى طبيعى على ضفاف نيل القاهرة من قصر محمد على بشبرا الخيمة (كلية زراعة عين شمس) حتى حلوان، النهر عن يمينك والمقاعد الحجرية تَتَتَابع، وعن يسارك تُتابع أيضًا مساحات خضراء مستطيلة تزين الورود بعضها، ثم طريق السيارات. كل ذلك دونما عائق يعوق الحركة أو يحجب رؤية النهر. كانت القاهرة مدينة تحتوى على كل مكونات الجمال والجذب. وعلى الرغم من ذلك، كانت «القاهرة» مدينة مزدحمة بمقاييس زمنها (الكثافة السكانية فى الكيلومتر المربع)، مدينة يسكنها أكثر من خمسة ملايين مواطن، ومع هذا لم تكن مدينة قبيحة مزعجة، وظلت مدينة أفقية متماسكة بصريًّا وجماليًّا، تنعم بقدر من المساحات الخضراء، ويتحسر عليها كل مَن عاش جمالها آنذاك، ويرى ما آلت إليه اليوم. وفى المقابل، لا تجد ذات الحسرة لدى المخضرمين من أهل لندن وباريس وروما، إذ لم تعبث بمدنهم يد العشوائية. ولا تتغير صورها وشخصيتها البصرية عبر الزمن.

ومع تزايد الانفجار السكانى فى مصر بصفة عامة، وفى العاصمة القاهرة على وجه الخصوص، وصل عدد سكان القاهرة، فى مطلع السبعينيات، إلى الحد الحرِج، وموارد الدولة المحدودة تعجز عن مواكبة الزيادة السكانية وآثارها السلبية على المعيشة، ولجأت الحكومات المتعاقبة إلى مواجهة الأمر بالمُسكِّنات المؤقتة، وحلول مقاولى الطرق والكبارى، لا الحلول والرؤى الاستراتيجية المتكاملة للتخطيط العمرانى الذى يحافظ على شخصية المدينة، فعلى سبيل المثال، عند مواجهة مشكلة ازدحام شوارع القاهرة بالسيارات والاختناقات المرورية، تتفتق الأذهان المحدودة عن حلول تتمثل فى إنشاء كبارى علوية تخترق عمارة المدينة وتشوهها. ثم سرعان ما تتفاقم المشاكل مرة أخرى، فتتم المواجهة بالمزيد من الكبارى، وهكذا تتوالى الدائرة الجهنمية والحلقة المفرغة وتصبح القاهرة وكأنها مدينة عشوائية تعيش تحت شبكة من الكبارى.

منذ الستينيات، كانت هناك مجهودات لا تنكر، وحملات رسمية للتوعية بضرورة «تنظيم النسل»، ولكنها لم تنجح، فالدولة الدينية العميقة وقفت- وما زالت- لها بالمرصاد. كما كانت هناك محاولات لإنشاء مناطق جذب سكانى بعيدًا عن العاصمة.. مدن جديدة. ولكن كل تلك المحاولات لم تنجح فى تخفيف الضغط على «القاهرة».

■ لقد كان- ولا يزال- الانفجار السكانى هو العقبة الكؤود أمام التنمية المستدامة، عقبة لن تُزاح إلا باللجوء إلى حلول جريئة من خارج صندوق الفتاوى الدينية المبطنة والمعلنة.

■ «القاهرة»- التى لم تكن حتى عقود قليلة خلَت بأقل جاذبية وصفاء من لندن وباريس وروما- أضحت اليوم نموذجًا للفوضى البصرية، فلا يوجد فى عاصمة من تلك العواصم هذا الكم الرهيب الغث من لافتات الإعلانات من كل نوع، تلك التى تحاصر المواطن أينما ولَّى وجهه، فى عدوانية مستفزة على المجال البصرى العام، خادشة للذوق السوِىّ، فلماذا لا نحذو حذو العالم المتحضر فى التعامل مع مشاكل عواصمه ومدنه؟.

■ ترى هل ما شاهدناه تحت اسم «الهوية البصرية لمدينة أسوان»، (انظر جوجل «الهوية البصرية لأسوان») يتحمل اختلاف وجهات النظر، أم يجب أن يقف الجميع كرجل واحد مؤيدين ومعجبين ومشيدين به وبمَن أنجزه؟. إن «أسوان» بناسها ومناخها وطبيعتها تُعد من أجمل بقاع الأرض، فلا تلوثوا مجالها البصرى بحجة «الهوية البصرية». وما شاهدناه من تصميمات فنية باسم «الهوية البصرية لأسوان» لا يمثل من وجهة نظر العديد من المتخصصين إلا نوعًا من التشوش والفوضى البصرية، ويبين عن انعدام وافتقار لأبجديات وأسس التصميم ومهارات الرسم، كما أن مسألة تصميم «الهوية البصرية» يجب أن تتم بطريقة مؤسَّسية تنأى بها عن الشبهات، ومن خلال مرجعية جمالية، تتمثل فى لجان وخبرات متخصصة ومسابقات.. ومقارنات، خاصة أنها عملية تعتمد أساسًا- فضلًا عن المعرفة والدراسة والخبرة- على الذوق والموهبة، والذوق والمجال البصرى العام أخطر من أن يُترك للمزاج الفردى والإسناد المباشر.

■ ترى ما المردود من تضخم غير مبرر لأجهزة الدولة- الفقيرة- الإدارية (٣٤ وزارة)؟، ولأننا نهوى الضخامة وتضخيم وتفخيم كل شى، فلا مانع من إنشاء جهاز قومى للهوية البصرية، ولا تقل لى إن هناك جهازًا باسم «الجهاز القومى للتنسيق الحضارى» هذا دوره.. وكالة وزارة ذات هيكل وظيفى ومرتبات ومكافآت وسفريات.. فـ«زيادة الخير خيرين».

■ شاهدنا الكراكات وهى تحطم البيوت العائمة على النيل (العوّامات) بهِمّة، وكان الأَوْلَى أن نشاهدها وهى تحطم بذات الهِمّة كل الأندية والأبنية التى تحتل شاطئ النيل وتشوهه، دونما أى استثناء تفرضه الضرورة. والاستثناءات هى آفة ومرض اجتماعى عضال، ومصرى بامتياز.

Loading

ما مدى اعجابك ؟

انقر على نجمة لتقييمه!

متوسط ​​تقييم 0 / 5. عدد الأصوات: 0

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذا المنشور.

ياريت تشكرونا على المجهود فى نقل وكتابه البوست ولو بتعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous Post

الهرمونات والمنشطات حل جديد للتخلص من مشاكل الجيوب الأنفية المزمنة

Next Post

1 مارس 1965.. المحكمة العسكرية فى سوريا تبدأ فى محاكمة الجاسوس الإسرائيلى «إيلى كوهين» المتخفى باسم «كامل أمين ثابت»

Related Posts